عبق من سيرته العطرة :
عاش الإمام الباقر (عليهالسلام) خلال الحقبة الأموية التي تميزت بالعنف والقمع ، وانتشار مظاهر الجور والظلم والفساد ، فقد امتدّت حياته عليهالسلام من سنة ٥٧ إلى سنة ١١٤ هـ ، فأدرك جده الحسين عليهالسلام نحو أربعة أعوام ، وهي الفترة الممتدة من غرّة رجب سنة ٥٧ إلى المحرم سنة ٦١ هـ حيث شهادة جده الحسين عليهالسلام ، فكانت بدايات نشأته مع واقعة الطف الأليمة ، التي شهد كل فصولها ، وما جرى فيها من مشاهد القتل والترويع والسبي والأسر بشكل لم تعرفه الجريمة البشرية من قبل.
روي عن الإمام الباقر عليهالسلام أنه قال : «قتل جدي الحسين عليهالسلام ولي أربع سنين ، واني لأذكر مقتله ، وما نالنا في ذلك الوقت»
وعاش أبو جعفر الباقر عليهالسلام في ظلّ إمامة أبيه علي زين العابدين عليهالسلام من سنة ٦١ إلى ٩٥ هـ ، أي نحو أربع وثلاثين سنة وأشهر ، وقام بأعباء الإمامة مقام أبيه وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، من سنة ٩٥ هـ إلى شهادته في سابع ذي الحجّة سنة ١١٤ هـ ، أي نحو تسع عشرة سنة .
كنيته :
أبو جعفر ولا كنية له غيرها ، وهي مشتركة بينه وبين الإمام محمد الجواد عليهالسلام ، ويقال في التخصيص بالباقر أبو جعفر الأول ، وللجواد أبو جعفر الثاني .
معنى الباقر :
أشهر الألقاب التي عرف بها هي الباقر ، وهو مشتقّ من التبقّر ، والتبقّر لغة : يعني التوسّع والتفتّح ، ومنه يقال : بقر الأرض : شقّها ووسّعها ، وأجمع المترجمون له من لغويين ومؤرّخين ومحدّثين أنّه عليهالسلام عرف بالباقر لأنّه بقر العلم ، أي شقّه وعرف أصله واستنبط فرعه ، وعلم خفيّه وتمكّن فيه.
وقال بعضهم : عرف بالباقر لتبقّره في العلم ، أي توسّعه فيه ، وتبحّره في دقائقه ، أو لأنّه بقر علوم النبيين .
بشارة الرسول صلىاللهعليه وآله بالباقر عليهالسلام :
روي بطرق عدّة أنّ النبي المصطفى صلىاللهعليهوآله قد بشّر جابر بن عبد اللّه الأنصاري بأنّه يدرك زمان الباقر عليهالسلام ، وسمّاه له ولقّبه ، وذكر بأنّه يبقر العلم بقراً ، وأنّ اللّه يهب له النور والحكمة ، وأبلغه سلامه.
روى الطبري عن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : «جاءني جابر ابن عبد اللّه وأنا في الكتّاب ، فقال لي : اكشف لي عن بطنك ، فكشفت له عن بطني فقبله ، ثم قال : إن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أمرني أن أقرئك السلام» .
وروى جابر عن رسول اللّه صلىاللهعليه وآله ، قال : «يا جابر ، يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً من ولدي ، يقال له محمد بن علي بن الحسين ، يبقر العلم بقراً ، فإذا رأيته فاقرأه مني السلام. قال جابر رضياللهعنه : فأخّر اللّه تعالى مدّتي حتّى رأيت الباقر ، فأقرأته السلام عن جدّه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ».
وروى المديني عن جابر ، أنّه قال للباقر عليهالسلام وهو صغير : رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يسلّم عليك ، فقيل له : وكيف ذاك؟ قال : كنت جالساً عنده والحسين في حجره ، وهو يداعبه ، فقال : «يا جابر ، يولد له مولود اسمه علي ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيد العابدين ، فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد ، فإن أدركته يا جابر ، فأقرئه منّي السلام».
الحكام المعاصرون له (عليهالسلام ):
أدرك الإمام الباقر عليهالسلام قبل إمامته أواخر أيام معاوية بن أبي سفيان الذي عهد إلى ابنه الطاغية يزيد ٦٠ ـ ٦٤ هـ ، فجعل الخلافة ملكا يتوارثه آل سفيان وآل مروان ، وعهد يزيد إلى ابنه معاوية بن يزيد الذي خلع نفسه فلم يمارس الحكم ، وتوفّي بعد فترة وجيزة من البيعة له ، ومن ثم مروان بن الحكم ٦٤ ـ ٦٥ هـ ، وعبد الملك بن مروان ٦٥ ـ ٨٦ هـ ، والوليد بن عبد الملك ٨٦ ـ ٩٦ هـ.
وأدرك خلال فترة إمامته عليهالسلام نحو سنة واحدة من أيام الوليد بن عبد الملك ، وأيام سليمان بن عبد الملك ٩٦ ـ ٩٩ هـ ، وعمر بن عبد العزيز بن مروان ٩٩ ـ ١٠١ هـ ، ويزيد بن عبد الملك ١٠١ ـ ١٠٥ هـ ، وهشام بن عبد الملك ١٠٥ ـ ١٢٥ هـ ، وقضى مسموماً بعد مضي نحو تسع سنين من أيام هشام .
وكان عهد هشام بن عبد الملك حافلاً بالتعسّف والصدام المعلن مع الإمام الباقر عليهالسلام ، فقد أمر بإشخاصه مع ولده الصادق (عليهماالسلام) إلى الشام ، ولما ورد حجبه ثلاثة أيام ، وتآمر مع أصحابه ومن كان بحضرته من بني أُميّة للنيل منه وتوبيخه ، فلما دخل عليه أبو جعفر عليهالسلام قال بيده السلام عليكم ، فعمّهم جميعاً بالسلام ثم جلس ، فازداد هشام عليه حنقاً بتركه السلام عليه بالخلافة وجلوسه بغير إذن ، فأقبل يوبّخه ، ويقول فيما يقول له : يا محمد بن علي ، لا يزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين ، ودعا إلى نفسه ، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلّة علم ، فلما سكت القوم نهض عليهالسلام قائماً ، ثم قال : «أيها الناس ، أين تذهبون ، وأين يُراد بكم؟! بنا هدى اللّه أولكم ، وبنا يختم آخركم ، فإن يكن لكم ملك معجّل ، فإن لنا ملكاً مؤجلاً ، وليس بعد ملكنا ملك ، لأنا أهل العاقبة ، يقول اللّه عزّوجلّ : «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ». فأمر به إلى الحبس». وأخيراً تكشّفت سريرة هشام بدسّ السمّ إلى الإمام عليهالسلام والقضاء على حياته، حيث انتقل الإمام الباقر عليهالسلام إلى رضوان بارئه بالحميمة من الشراة ، ثم نقل إلى بقيع المدينة يوم الاثنين ، السابع من ذي الحجّة ، في ملك هشام بن عبد الملك ، سنة ١١٤ هـ ، وعمره يومئذٍ سبع وخمسون سنة ، وهو المشهور عند غالبية المؤرّخين والمحدّثين ، والموافق لما قرّر في المشهور من تاريخ ولادته وما قدّر من عمره. ودفن في بقيع الغرقد بالمدينة ، في القبر الذي فيه أبوه علي بن الحسين عليهماالسلام ، وعمّ أبيه الحسن عليهالسلام ، في القبّة التي فيها قبر العباس بن عبد المطلب رضوان الله عليه.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا .