بعد دفن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بهذه البقعة المباركة من أرض النجف الأشرف أضحى مضجعه المطهر ملاذاً للمؤمنين وأنيساً للذاكرين ومقصداً للمهمومين وباباً لأصحاب الحاجات ورجاءً للمبتلين بالأمراض والعاهات. وقد ظهرت للعيان الكرامات الباهرة من حضرة إمام المتقين صلوات الله عليه قديماً وحديثاً ووُثِّقت في العديد من المؤلفات. وقد ورد عن إمامنا جعفر الصادق عليه السلام قوله: (( نحن نقول بظهر الكوفة قبر ما يلوذ به ذو عاهة إلاّ شافاه الله ))(1).
وفي هذا المعنى قال الشاعر الحسين بن الحجاج (ت 391هـ) في مطلع قصيدته الفائية المشهورة:
يا صاحبَ القبة البيضاء في النجف من زار قبرك واستشفى لديك شُفي(2)
ومن الجدير بالذكر انّ الرحالة العربي ابن بطوطة عندما زار النجف سنة 727هـ ذكر في كتابه الشهير الموسوم بـ (تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) والمعروف برحلة ابن بطوطة ما نصه: (وهذه الروضة ظهرت لها كراماتٌ ثبتَ بها عندهم أنَّ بها قبرَ عليّ رضي الله عنه, فمنها أن في ليلة السابع والعشرين من رجب, وتسمى عندهم ليلة المحيا, يؤتى إلى تلك الروضة بكل مُقعد من العراقَيْن وخراسان وبلاد فارس والروم, فيجتمع منهم الثلاثون والأربعون ونحو ذلك, فإذا كانوا بعد العشاء الآخرة جُعِلوا فوق الضريح المقدس, والناس ينتظرون قيامهم وهم بين مُصلٍّ وذاكرٍ وتالٍ ومشاهدٍ للروضة, فإذا مضى من الليل نصفه أو ثُلثاه أو نحو ذلك قام الجميع أصحّاء من غير سوء, وهم يقولون: لا إله إلّا الله, محمد رسول الله, عليّ وليّ الله. وهذا أمرٌ مستفيضٌ عندهم سمعتُه من الثقات, ولم أحضر تلك الليلة ولكني رأيتُ بمدرسة الضياف ثلاثة من الرجال, أحدهم من أرض الروم والثاني من أصبهان والثالث من خُراسان, وهم مُقعدون, فاستخبرتهم عن شأنهم فأخبروني أنهم لم يدركوا ليلة المحيا, وأنهم منتظرون أوانها من عام آخر)(3).
وأما العلاج الطبي الذي كان يقدم للمجاورين في مدينة النجف القديمة أو لزوار المرقد المقدس فقد برز فيه حكماء كُثُر اختصوا بهذه المهنة وتناقلوها جيلاً بعد جيل. وعلى الرغم من ذلك لم يكن هناك مستشفى قد أُنشئ لعلاج المرضى إلى أن زار الشاه عباس الأول الصفوي مدينة النجف في عام 1033هـ, فأمر بجملة من الإصلاحات المهمة منها متابعة أعمال التوسعة والتعمير للبناء الجديد للمرقد العلوي المطهر الذي أمر به في عام 1023ه, وهي العمارة الموجودة في الوقت الحاضر, بالإضافة إلى تشييد مستشفى ومطبخ ومراحيض ومغاسل لخدمة الزوار في الجهة الشرقية من جدار الصحن الحيدري بجوار مسجد الخضراء, أي على يمين الداخل من باب الساعة المقابل للسوق الكبير. ولكن بعد مدة أُهملت هذه المنشآت فاشتراها خازن الحضرة الملا يوسف اليزدي (ت 1270هـ) بموافقة من زعيم الطائفة يومئذ الشيخ محمد حسن الجواهري في سنة 1252هـ وجعلها (قيصرية), وفتح لها باباً ينفذ إلى الصحن الشريف, وهو الباب المعروف اليوم بباب مسلم بن عقيل عليه السلام أو (باب العبايجية)(4).
ومن المرجح أنّ الذي أشار على الشاه عباس الصفوي بإنشاء هذا المستشفى هو السيد علي بن مراد الحكيم الطباطبائي الحسني (جد السادة آل الحكيم الكرام في النجف الأشرف) والذي كان طبيباً بارعاً في مهنته ومن مؤلفاته كتاب (المجربات الطبية). فالحكيم جاء مرافقاً للشاه في هذه الزيارة وقد رأى أن النجف تفتقر لمركز متخصص لعلاج المرضى, ولا يبعد لمكانته العلمية ولخبرته الطبية أنه قد عمل في هذا المستشفى إلى حين وفاته.
وبعد وفاة الشاه عباس الأول عام 1038هـ تقلد الحكم حفيده الشاه صفي الذي أكمل عمارة المرقد المطهر, وعندما زار النجف سنة 1042هـ/1632م وتشرف بزيارة ضريح أمير المؤمنين عليه السلام أمر بتشييد مستشفى واسع مربع الشكل ذي غرف وأواوين مماثلة لغرف وأواوين الصحن الشريف في الركن الجنوبي من الجهة الشرقية من جدار الصحن على يسار الداخل إلى الصحن الشريف من باب الساعة. وكان لهذا المستشفى باب صغير ينفذ للصحن تم إغلاقه فيما بعد. وعُرف هذا المستشفى بـخان (دار الشفاء), كان يقصده المرضى من أهل النجف والزائرين لتلقي العلاج مجاناً ومتبركين بحضرة أمير المؤمنين عليه السلام, إذ جعله الشاه وقفاً للمرقد العلوي المطهر. وبنى الشاه صفي أيضاً دار ضيافة ومطبخاً لإطعام الزوار.
يقول الشيخ محمد حسين حرز الدين في (تاريخ النجف الأشرف) عن دار الشفاء ما نصه: (هي مستشفى للمجاورين والزوار والفقراء أمر ببنائها الشاه صفي بن صفي ميرزا ابن السلطان شاه عباس الصفوي عند زيارته النجف الأشرف سنة 1042هـ- 1632م. يعرف في عصرنا الحاضر بخان دار الشفا, وهو عبارة عن دار مربعة واسعة ضخمة الأسس والبناء تحوطها غرف أمامها أواوين, يقع في الجهة الشرقية من الصحن الشريف يفصل بينه وبين الصحن الشريف زقاق ضيق يؤدي لبعض الدور الجنوبية. كان باب دار الشفاء متجه [كذا] نحو الشمال على يسار الداخل إلى الصحن الشريف من الباب الكبير الشرقي, وكان الزائرون لحرم أمير المؤمنين عليه السلام يأوون إليه ليل نهار في مواسم الزيارات وغيرها, وفي سنة 1368هـ- 1949هـ صار معظم هذا الخان ضمن الشارع المحيط بالصحن الشريف, وبما تبقى من الخان بنيت مدرسة منتدى النشر)(5).
ويقول الشيخ حرز الدين أيضاً:( في هذه السنة زار النجف الشاه صفي بن صفي ميرزا ابن السلطان شاه عباس الصفوي, وأمر وزيره ميرزا تقي خان بتجديد القبة المرتضوية وفسحة الحرم وتوسعته... وبنى دار الشفاء وهي مستشفى للمجاورين والزوار والفقراء)(6).
وفي نهاية الأربعينيات من القرن الماضي أزيل معظم مساحة هذه الدار بسبب إنشاء الشارع المحيط بالصحن الشريف, أما ما تبقى منها وهو (137م2) فقد ضمت إليه مساحة 44 م2 وجُعِلَ مبنى لمدرسة منتدى النشر التي أسسها الشيخ محمد رضا المظفر في سنة 1365هـ, إذ قامت جمعية منتدى النشر باستئجار خان دار الشفاء من الأوقاف العامة لمدة ستين سنة لكل سنة 40 ديناراً بإجازة شرعية من مرجع الطائفة السيد أبو الحسن الأصفهاني, ثم تحول المبنى بعد ذلك الى كلية الفقه التي اسستها جمعية منتدى النشر(7).
وفي السبعينيات قررت الحكومة العراقية إزالة جميع الأبنية الملاصقة لجدار الصحن الشريف, فتم في عام 1980م هدم كلية الفقه, وبذلك لم يبقَ لهذا المبنى التاريخي أي أثر. وبعد زوال النظام البائد في عام 2003م وابتداء التعمير وإعادة البناء لمعالم المرقد العلوي المطهّر تم التفكير بإنشاء مبنى في الركن الجنوبي من الجهة الشرقية مناظر من ناحية الشكل الهندسي والمساحة لجامع الخضراء الذي يقع في الركن الشمالي من الجهة نفسها. وتم إعداد التصميم بمساحة تبلغ 325م2 على أن يتألف من ثلاث طبقات تكون أحداها تحت الأرض, وتمت المباشرة بالمشروع بتاريخ 22/2/2012م، وأنجز السرداب بنهاية العام 2012م, وتم التفكير باستغلال الطبقات العلوية كمركز طبي يقدم الخدمات للزائرين. ويعد هذا الأمر تسديداً الهياً وتوجيهاً عَلوياً لإحياء دار الشفاء باعتباره مَعلَماً تاريخياً وتراثياً مهماً يُؤرخ لحقبة زمنية معينة ويجسد معنىً روحياً مرتبطاً بقدسية الروضة الحيدرية المطهرة.
وفي بداية العام 2014م تم الشروع ببناء القسم العلوي من هذا المبنى, وغلفت جدرانه بالطابوق المنجور مع مراعاة النقوش والزخارف الإسلامية المستخدمة في تغليف جدران الصحن الشريف، وأُعلن الانتهاء من إنجاز المشروع بتاريخ 1/1/2016م الموافق لليوم 20 من شهر ربيع الأول من عام 1437هـ, وتم تخصيصه لعمل المفرزة الطبية التابعة للعتبة العلوية المقدسة.
وقد أرّخَ اكتمال بناء دار الشفاء في العام 1437هـ الشاعر الشيخ حسنين قفطان بقوله:
يـا قاصـــداً قبـراً بتربتِـــه الشـــفا عـةُ والشـفاءُ وقربُهُ يجلـو المحـنْ
سَــلِّم علـى نفــس الوصــيِّ فإنَّهـا نفسٌ بهــا الرحمـنُ بارِئهــا سَـكَنْ
وإذا وصــلتَ لقبرهِ الزاكـي تَجِــدْ داراً لـــهُ تَهَـــبُ الدواءَ بلا ثَمَـــنْ
كَرَمــاً لخدمـــةِ زائريـــهِ تأسَّسَت وبِطبِّهـا فيـضُ الوَلاءِ قــد اقتــرنْ
ولِمَـنْ أتــاهُ مؤرخـاً (لاح اسـمُهـا دارُ الشفاءِ جِوارَ قبرِ أبي الحسنْ)