[1] ومن خطبة له (عليه السلام)
يذكر فيها ابتداءَ خلق السماءِ والأَرض، وخلق آدم عليه الصلاة والسلام([1])
الْـحَمْدُ للهِ الَّذِي لا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ القَائِلُونَ، وَلَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ العَادُّونَ، وَلَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْـمُجْتَهِدُونَ، الَّذِي لا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الهِمَمِ، وَلا يَنَالُهُ غَوْصُ الفِطَنِ، الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ ، وَلا نَعْتٌ مَوْجُودٌ ، وَلا وَقْتٌ مَعْدُودٌ ، وَلا أَجَلٌ مَمْدُودٌ.
فَطَرَ الخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَنَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ، وَوَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ.
أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْديقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الاِخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الاِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَد جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ [وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ]، وَمَنْ أشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ قَالَ: «فِيمَ» فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قَالَ: «عَلاَمَ؟» فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ.
كائِنٌ لا عَنْ حَدَثٍ، مَوْجُودٌ لا عَنْ عَدَمٍ، مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لا بِمُقَارَنَةٍ، وَغَيْرُ كُلِّ شيءٍ لا بِمُزَايَلَةٍ، فَاعِلٌ لا بِمَعْنَى الْـحَرَكَاتِ وَالآلَةِ، بَصِيرٌ إذْ لا مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوَحِّدٌ إذْ لا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَلا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ.
أَنْشَأَ الخَلْقَ إنْشَـاءً ، وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً ، بـِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَـهَا ، وَلا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا ، وَلا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا، وَلا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا.
أَجَالَ الأشياءَ لاَِوْقَاتِهَا، وَلَاءَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وَغَرَّزَ غَرائِزَهَا، وَأَلزَمَهَا أشْبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِها وَانْتِهَائِهَا، عَارِفاً بِقَرَائِنِها وَأَحْنَائِهَا.
ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الأجْوَاءِ، وَشَقَّ الأرْجَاءِ، وَسَكَائِكَ الَهوَاءِ([2])، فأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلاطِماً تَيَّارُهُ([3])، مُتراكِماً زَخَّارُهُ([4])، حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَالزَّعْزَعِ([5]) الْقَاصِفَةِ، فَأَمَرَها بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ، وَقَرنَهَا إِلَى حَدِّهِ، الهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ، وَالمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ.
ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا([6])، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا([7])، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها، وَأَبْعَدَ مَنْشَأهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ([8]) الْـمَاءِ الزَّخَّارِ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ البِحَارِ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ، وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالفَضَاءِ، تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ، وَسَاجِيَهُ عَلَى مَائِرِهِ([9])، حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ، وَرَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ([10])، فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ، وَجَوٍّ مُنْفَهِقٍ([11])، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمٰوَاتٍ، جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً([12])، وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَسَمْكاً مَرْفُوعاً، بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا، وَلا دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا. ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزينَةِ الكَوَاكِبِ، وَضِياءِ الثَّوَاقِبِ، وَأَجْرَى فِيها سِرَاجاً مُسْتَطِيراً ، وَقَمَراً مُنِيراً في فَلَك دَائِرٍ ، وَسَقْفٍ سَائِر ٍ، وَرَقِيمٍ مَائِرٍ([13]).
ثُمَّ فَتَقَ([14]) مَا بَيْنَ السَّمواتِ العُلَا، فَمَلأَهُنَّ أَطْواراً مِنْ مَلائِكَتِهِ؛ مِنْهُمْ سُجُودٌ لا يَرْكَعُونَ، وَرُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُونَ، وَصَافُّونَ لايَتَزَايَلُونَ، وَمُسَبِّحُونَ لايَسْأَمُونَ، لا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ العُيُونِ، وَلا سَهْوُ العُقُولِ، وَلا فَترَةُ الأَبْدَانِ، ولا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ.
وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ ، وأَلسِنَةٌ إِلَى رُسُلِـهِ ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِـهِ وَأَمْرِهِ. وَمِنْهُمُ الحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ، وَالسَّدَنَةُ لاَِبْوَابِ جِنَانِهِ. وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ في الأرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ، وَالمَارِقَةُ مِنَ السَّماءِ العُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ، والخَارِجَةُ مِنَ الأقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ، وَالـمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ العَرْشِ أَكْتَافُهُمْ، نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصارُهُمْ، مُتَلَفِّعُونَ([15]) تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ العِزَّةِ، وَأسْتَارُ القُدْرَةِ، لا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ، وَلا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ المَصْنُوعِينَ، وَلا يَحُدُّونَهُ بِالأماكِنِ، وَلا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ.
منها: في صفة خلق آدم (عليه السلام)
ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ([16]) الأرْضِ وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا، تُرْبَةً سَنَّهَا بِالـمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا([17]) بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزُبَتْ([18])، فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَوُصُولٍ، وَأَعْضَاءٍ وَفُصُولٍ، أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ([19])، لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ، وَأجَلٍ مَعْلُومٍ.
ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا، وَفِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا، وَجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا، وَأدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا، وَمَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، والأَذْوَاقِ والَمشَامِّ، وَالألوَانِ وَالأَجْنَاس، مَعْجُوناً بِطِينَةِ الألوَانِ الُمخْتَلِفَةِ، وَالأَشْبَاهِ المُؤْتَلِفَةِ، وَالأَضْدَادِ المُتَعَادِيَةِ، وَالأَخْلاطِ المُـتَبَايِنَةِ، مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ، وَالبَلَّةِ وَالْـجُمُودِ، وَالـمَساءَةِ وَالسُّرُورِ. وَاسْتَأدَى اللهُ سُبْحَانَهُ المَلائِكَةَ([20]) وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ، وَعَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ، في الإذْعَانِ بالسُّجُودِ لَهُ، وَالخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ، فَقَالَ عَزَّ مِن قائِلٍ:)اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ( وَقَبِيلَهُ([21])، اعْتَرَتْهُمُ الحَمِيَّةُ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقْوَةُ، وَتَعَزَّزُوا بِخِلْقَةِ النَّارِ، وَاسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ، فَأَعْطَاهُ اللهُ تَعالَى النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ، وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِيَّةِ، وَإِنْجَازاً لِلْعِدَةِ، فَقَالَ: ( ([فـ]إنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْـمَعْلُومِ).
ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحَانَهُ آدَمَ دَاراً أرْغَدَ فِيهَا عَيْشَهُ، وَآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ، وَحَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَعَدَاوَتَهُ، فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْـمُقَامِ، وَمُرَافَقَةِ الأَبْرَارِ، فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ، وَالعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ، وَاسْتَبْدَلَ بِالْـجَذَلِ وَجَلاً([22])، وَبِالاغْترَارِ نَدَماً.
ثُمَّ بَسَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ لَهُ في تَوْبَتِهِ، وَلَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ، وَوَعَدَهُ المَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ، فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِيَّةِ، وَتَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ([23]).
وَاصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدَهِ أَنْبيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وَعَلَى تَبْلِيْغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَـمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللهِ إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ([24]) الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَاقتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيْهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ([25])، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَـهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْـمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَالٍ تُفْنِيهمْ، وَأَوْصَابٍ([26]) تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ.
وَلَمْ يُخْلِ اللهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ؛ رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلا كَثْرَةُ المُكَذِّبِينَ لَـهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِرٍ([27]) عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ. عَلَى ذَلِكَ نُسِلَتِ القُرُونُ، وَمَضَتِ الدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ الآباءُ، وَخَلَفَتِ الأبْنَاءُ.
إِلَى أَنْ بَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله لاِِنْجَازِ عِدَتِهِ وَتَمامِ نُبُوَّتِهِ، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ، كَرِيماً مِيلادُهُ. وَأهْلُ الأرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِِ بِخَلْقِهِ، أَوْ مُلْحِدٍ في اسْمِـهِ ، أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ ، فَهَدَاهُمْ بهِ مِنَ الضَّلاَلَـةِ ، وَأَنْقَذَهُمْ بِمَكانِهِ مِنَ الْـجَهَالَـةِ.
ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِـمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه لِقَاءَهُ، وَرَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَأَكْرَمَهُ عَنْ دَارِالدُّنْيَا، وَرَغِبَ بِهِ عَنْ مُقَارَنَةِ البَلْوَى، فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأنْبِيَاءُ في أُمَمِها، إذْ لَم يَترُكُوهُمْ هَمَلاً، بِغَيْرِ طَرِيقٍ واضِحٍ، ولاَعَلَمٍ قَائِمٍ.
كِتَابَ رَبِّكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَحَرامَهُ، وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ، وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ، وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ([28])، وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ، مُفَسِّراً جُمَلَهُ، وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ، بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ، وَمُوَسَّعٍ عَلَى العِبَادِ فِي جَهْلِهِ، وَبَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الكِتَابِ فَرْضُهُ، [وَ] مَعْلُوم في السُّنَّهِ نَسْخُهُ، وَوَاجبٍ في السُّنَّةِ أَخْذُهُ، مُرَخَّصٍ في الكِتابِ تَرْكُهُ، وَبَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ، وَزَائِلٍ في مُسْتَقْبَلِهِ، وَمُبَايَنٍ بَيْنَ مَحَارِمِهِ([29])، مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ، أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ، وَبَيْنَ مَقْبُولٍ في أَدْنَاهُ، ومُوَسَّعٍ في أَقْصَاهُ.
ومنها: [في ذكر الحجّ]
وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الحَرَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلأنَامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الأَنْعَامِ، وَيأْلَـهُونَ([30]) إِلَيْهِ وُلُوهَ الحَمَامِ.
جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا كَلِمَتَهُ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ، وَتَشَبَّهُوا بِمَلاَئِكَتِهِ المُطِيفِينَ بِعَرْشِـهِ ، يُحْـرِزُونَ الأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِـهِ ، وَيَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِـدَ مَغْفِرَتِـهِ.
جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ لِلإِسْلامِ عَلَماً، وَلِلْعَائِذِينَ حَرَماً، فَرَضَ حَجَّهُ، وَأَوْجَبَ حَقَّهُ، وَكَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ([31])، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَـمِيْنَ).
[1] ـ رواها مسندة قطب الدين الراوندي (ت573) في منهاج البراعة 1: 107 عن الشيخ أبي جعفر محمّد بن عليّ ابن الحسن الحلبي، عن الشيخ أبي جعفر الطوسي، عن الشيخ المفيد أبي عبدالله الحارثي، أخبرنا أبو الحسن عليّ ابن محمّد الكاتب، أخبرنا الحسن بن عليّ الزعفراني، أخبرنا أبو اسحاق ابراهيم بن محمّد الثقفي، أخبرنا أبو الوليد العباس بن بكار الضبي، حدّثنا أبو بكر الهذلي، عن الزهري وعيسى بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن أميرالمؤمنين (عليه السلام). وقال الراوندي: «ولو أردت ذكر ما حذفه الرضي من الخطبة لطال هذا الكتاب».
هذا وقد وردت بعض النصوص المشابهة لهذه الخطبة في مختلف المصادر، فقد روى الكليني (ت328) في الكافي 1: 134 ح2 وابن شعبة الحراني (ق4) في تحف العقول : 61، بعض الفقرات المشابهة لما ورد في هذه الخطبة مع اختلاف في الألفاظ والترتيب.
[2] ـ السكاك والسكاكة: الهواء بين السماء والأرض، أو أعلى الفضاء.
[3] ـ التيار: الموج.
[4] ـ الزخار: الذي يَزْخَر، أي يمتدّ ويرتفع.
[5] ـ الريح الزعزع: الشديدة الهبوب.
[6] ـ اعتقم مهبّها: أي جعل هبوبها عقيماً، والريح العقيم التي لا تُلقح سحاباً ولا شجراً.
[7] ـ أدام مربها: ملازمتها.
[8] ـ التصفيق: ضرب الشيء بعضه على بعض.
[9] ـ الساجي: الساكن. والمائر: الذي يذهب ويجيئ.
[10] ـ ركامه: أي متراكمه.
[11] ـ المنفتق: المنشق، والمنفهق: المفتوح والمتّسع.
[12] ـ الموج المكفوف: الممنوع من السيلان.
[13] ـ رقيم مائر: أي لوح متحرك، سُمّي الفلك رقيماً تشبيهاً باللوح، لأنّه مسطح فيما يبدو للناظر.
[14] ـ قال الفخر الرازي في تفسيره 2 : 179 سورة البقرة آية 30 المسألة الرابعة، عندما أورد كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) هذا في وصف الملائكة: «واعلم انّه ليس بعد كلام الله وكلام رسوله كلام في وصف الملائكة أعلى وأجل من كلام أميرالمؤمنين عليّ (عليه السلام)، قال في بعض خطبه: ثم فتق ما بين السماوات العلى... الخ».
[15] ـ متلفّعون: أي ملتحفون، أو مشتملون.
[16] ـ الحَزْن: ما غلظ من الأرض.
[17] ـ لاطها: أي مزجها.
[18] ـ لَزُبت: أي التصقت وثبتت.
[19] ـ أصلدها: جعلها صَلْداً أي صُلباً متيناً. وصلصلت: يَبُست.
[20] ـ استأدى الله الملائكة: طلب منهم الأداء.
[21] ـ القبيل: الجماعة من ثلاثة فصاعداً من قوم شتى.
[22] ـ الجذل: الفرح والسرور. والوجل: الخوف.
[23] ـ قد يُتصوّر انّ ظاهر كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) هنا يخالف معتقد الإمامية في عصمة الأنبياء : المطلقة ـ كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرحه 1: 103 وغيره ـ فجعلوه ذريعة للطعن على عقائد الشيعة. لكن نقول: لم يكن كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) هنا عن آدم (عليه السلام) بأكثر ممّا ورد في القرآن الكريم، حيث انّه (عليه السلام) اقتبس كلامه منه، وبعد ما أوّل علماؤنا ظاهر النصوص القرآنية المخالفة للعصمة المطلقة بما يوافق مقتضى العقل ومقتضى الحكمة الإلهية، كان تأويل كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) أولى وأحرى.
والعمدة في الدليل على العصمة المطلقة هو حكم العقل بوجوبها ولزومها، حيث انّ الغرض من إرسال الأنبياء انّما هو هداية الناس وايصالهم إلى الله تعالى وإلى كمالهم المطلوب، فلا يجوز أن يصدر منهم ما يخالف غرض إرسالهم وبعثتهم، ممّا ينفّر الناس ويبعدهم عنهم. أمّا في خصوص قصة آدم (عليه السلام) فيقال: انّ النهي عن أكل الشجرة كان نهياً تنزيهياً لا تحريمياً، ولذا كان مخالفته كالمخالفة للاُولى ولأيّ أمر تنزيهي أو إرشادي آخر ممّا لا يستلزم العقاب والعذاب والخذلان الإلهي. أمّا قوله (عليه السلام): «فباع اليقين بشكّه» فقد قيل انّه مثل قديم للعرب يضرب لمن عمل عملاً لا يفيده وترك ما ينبغي له أن يفعله، أو يُراد من اليقين اليقين بعداوة إبليس وبالشك الشك فيها. أمّا التوبة فهي بمعنى الندم والرجوع، فكما تصحّ على صدور الذنب تصحّ أيضاً على ترك المندوب، مضافاً إلى انّ التوبة تحسن أن تقع ممّن لا يعهد في نفسه قبيحاً على سبيل الإنقطاع إلى الله والرجوع، ويكون وجه حسنها استحقاق الثواب، أو كونها لطفاً له ولغيره.
هذا هو المشهور عند الإمامية، نعم شذّ عنه بعض المتقدّمين والمتأخّرين، فمن المتقدّمين الشيخ المفيد ; حيث قال في أوائل المقالات:62 رقم32: «... وامّا ما كان من صغير لايستخفّ فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة وعلى غير تعمّد، وممتنع منهم بعدها على كلّ حال» وقال في تصحيح الاعتقاد: 129:
«... والعقل يجوّز عليهم ترك مندوب إليه على غير التعمّد للتقصير والعصيان». ومن المتأخرين الشيخ محمّد تقى التستري ; في كتابه بهج الصباغة 1: 596 حيث وافق الشيخ المفيد، وقال بعدما ذكر كلامه من أوائل المقالات: «وما قاله الصواب، وعليه يحمل أكل آدم من الشجرة، فانّه لم يكن عن تعمّد، لقوله تعالى: ﴿فَنَسِيَ وَلَم نَجِدْ لَهُ عَزْمَاً﴾».
[24] ـ اجتالتهم: أدارتهم، أو عدلت بهم، أو اعترتهم.
[25] ـ أي ليطلبوا منهم أداء ما ألزمهم من الميثاق والعهد.
[26] ـ الأوصاب: الأمراض.
[27] ـ الغابر: الباقي.
[28] ـ المرسل: المطلق، والمحدود: المقيد المظهر حدّه وغايته.
[29] ـ المباينة بين المحارم: تقسيمها إلى كبيرة وصغيرة.
[30] ـ يألهون إليـه: يشتـدّ شوقهم إليـه حتى تكـاد تذهب عقولهم من شدّة الاشتياق، كاشتياق الحمام إلى وكرها.
[31] ـ الوفادة: القدوم والورود.