[1] ـ واعلم انّ هذه الخطبة من أهم الدواعي لإنكار من أنكر نسبة ما ورد في كتاب نهج البلاغة إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وحكم بوضعه أو وضع معظمه من قبل الشيعة، ويبدو أنّه لولاها لما تعرّض أحد للنهج والتشكيك في صحة انتسابه، وأُسّ الاشكالات يدور تارة حول السند وتارة حول الدلالة، ونحن هنا نحاول تسليط الضوء على كلا القسمين بقدر المستطاع.

أما النقطة الاُولى وهي المناقشة السنديّة ـ والتي جعلها ابن تيمية في منهاجه [7: 87 ـ88] الأساس في ردّ الخطبة ـ فقد رواها جمع من المحدّثين والمتكلّمين بأسانيد مختلفة أو بدون سند ولكن مع الاشارة إلى شهرتها قبل الرضي وبعده، وذكرها أيضاً واستشهد بها أصحاب المعاجم اللغوية ممّا يدلّل على شهرتها وكثرة تداولها، وفيما يلي نوردهم حسب التسلسل الزمني:

(1) أبو القاسم البلخي (ت318) شيخ المعتزلة. قال ابن أبي الحديد في شرحه 1: 205: «وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة».

(2) أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن الرازي المعروف بابن قبة (المتوفى أوائل القرن الرابع) في كتاب الانصاف. ذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1: 206، وابن ميثم في شرحه 1 :252.

(3) رواها الشيخ الصدوق (ت381) في علل الشرايع 1 :151 ح12: «عن محمّد بن عليّ ماجيلويه، عن محمّد بن أبي القاسم، عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس» ورواها في معاني الأخبار : 360 ح1 بنفس السند وزاد اسناداً آخر: «محمّد بن ابراهيم بن اسحاق الطالقاني، عن عبد العزيز بن يحيى الجلودي، عن أحمد بن عمار بن خالد، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن عيسى بن راشد، عن عليّ بن خزيمة، عن عكرمة، عن ابن عباس». وذكر الصدوق شرح ألفاظها عن الحسن بن عبدالله بن سعيد العسكري من علماء العامة، والعسكري توفي في 395 هـ ، والكلام في (الصناعتين) : 285 ومواضع أخر شرح فيها العسكري ألفاظ الخطبة في الكتاب نفسه طبع في القاهرة/ تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم 1971م.

(4) رواها الشيخ المفيد (ت413) في الارشاد 1 :287 وقال: «روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس». وقال في كتاب الجمل: 62: «فأمّا خطبته التي رواها عبدالله بن عباس فهي أشهر من أن ندلّ عليها لشهرتها».

(5) ذكرها القاضي عبد الجبار (ت415) في المغني، وتصدّى لتأويل بعض كلماتها التي فيها طعن على الخلفاء، ولم ينكر نسبتها إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام).

(6) رواها الوزير أبو سعيد الآبي (ت / 422 هـ) في كتابيه (نثر الدرر) و(نزهة الأديب) والشقشقية في الباب الثالث، والفصل الأول من كتابه (نثر الدرر)، و(نزهة الأديب).

(7) رواها الشيخ الطوسي (ت460) في الأمالي: 372 ح803 «عن الحفّار، عن أبي القاسم الدعبلي، عن أبيه، عن أخيه دعبل، عن محمّد بن سلامة الشامي، عن زرارة، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ، عن ابن عباس، وعن محمّد عن أبيه عن جدّه».

(8) استشهد بها الميداني (ت518) في مجمع الأمثال 2 :170 رقم 1987.

(9) رواها الطبرسي (ت560) في الاحتجاج 1 : 281 وقال: «روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس».

(10) ذكرها ابن الخشّاب(ت567) وقال:«والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط مَن هو مِن العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي». ذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1 :205.

(11) رواها قطب الدين الراوندي (ت573) في منهاج البراعة 1 :131: «عن الشيخ أبي نصر الحسن بن محمّد ابن ابراهيم بن اليونارتي، عن الحاجب أبي الوفا محمّد بن بديع وأبي الحسين أحمد بن عبد الرحمن الذكواني، عن الحافظ أبي بكر بن مردويه الاصفهاني، عن سليمان بن أحمد الطبراني، أخبرنا أحمد بن عليّ الابار، أخبرنا اسحاق بن سعيد أبو سلمة الدمشقي، أخبرنا خليد بن دعلج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس».

(12) استشهد بها ابن الأثير (ت606) في النهاية 2: 490 وفسّر كثيراً من فصولها في ضمن كتابه.

(13) رواها سبط ابن الجوزي (ت654) في تذكرة الخواص : 124 وقال: «ذكر صاحب نهج البلاغة بعضها وأخلّ بالبعض، وقد أتيت بها مستوفاة، أخبرنا بها شيخنا أبو القاسم النفيس الأنباري باسناده عن ابن عباس».

(14) ذكر ابن ميثم البحراني (ت679) انّه رآها في نسخة عليها خطّ الوزير أبي الحسن عليّ بن محمّد بن فرات، وكان وزير المقتدر بالله، وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستين سنة.

(15) استشهد بها ابن منظور (ت711) في لسان العرب 10 :185 (مادة شقشق).

(16) استشهد بها الفيروزآبادي (ت817) في القاموس 3 :251.

هذا عدا من شرحها أمثال السيد المرتضى، وعلاء الدين گلستانه محمد بن أبي تراب الحسيني الأصفهاني صاحب كتاب نهج اليقين، وابراهيم الجيلاني من أعاظم العلماء. هذا كلّه من حيث السند و ما عثرنا عليه من هذه الجهة.

أمّا النقطة الثانية، وهي المناقشة الدلالية، فالأصل فيها ما تضمّنته الخطبة من اظهار التظلم من قبل أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وهذا حقّ لا شبهة فيه ولا غبار عليه، ولسنا بصدد إنكاره أو تأويله، فإنّ التاريخ خير شاهد عليه، ولا سيما ما جرى من أمر السقيفة، والفتن الواقعـة بعدها، وإجبـار الناس على البيعـة، مما أدّى إلى المنافرة والمباغضة بين الطرفين، حتى أَنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) هجرت الخليفة الأوّل ولم تكلّمه وماتت وهي واجدة عليه وأوصت أن لا يصلّي عليها [صحيح البخاري 4: 42، 5:82، 8:3، صحيح مسلم 5 :153].

وأدّى إلى تخلّـف عليّ (عليه السلام) عن البيعـة لستـة أشهـر ، ثمّ حينما جيء به للبيعة قال ـ على ما رود في صحـاح أهـل السنـة ـ : « كنّا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبدّ علينا فوجدنا في أنفسنا» [صحيح البخاري 5 :83، صحيح مسلم 5 :155] نحن وإن كنّا لا نعتقد بصحة ما تضمّنته رواية البخاري ومسلم من أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال لأبي بكر: «إنّا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك...» وذلك للمعارضة الحاصلة بين هذا الكلام وبين ذيل الرواية التي ذكرناها آنفاً. فلو كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) يعرف فضل أبي بكر، وأَنّ الله تعالى هو الذي أعطاه هذا المنصب وساقه إليه، فلماذا لم يبايعه من أوّل الأمر وترك البيعة لستة أشهر، ولماذا استعمل كلمة «الاستبداد بالأمر»، ولكن غرضنا من إيراد هذا النصّ إنّما هو الاحتجاج بقوله: «فاستبدّ علينا فوجدنا في أنفسنا» ممّا يدلّ بصراحة على تضجّره (عليه السلام) ممّا حدث وعدم رضائه به، ولكن الذي دعاه للتنازل إنّما هو رعاية مصلحة الإسلام لا كما توهّموه.

فلا عجب لو هاجت تلك الأحزان الدفينة طيلة أعوام مرّةً أُخرى في زمن خلافته (عليه السلام)، سيما وأنّه (عليه السلام) كان في حشد من الناس، وقد سئل عن أمر الخلافة ـ كما جاء في المصادر ـ فكان لزاماً عليه إظهار ما ربما خفي على من لم يشهد تلك الأيّام، مع انّه (عليه السلام) لم يكن بصدد سرد جميع ما جرى عليه إلاّ بقدر ما يقيم به الحجة ولا يبقي لأحد عذراً، وعلى كلّ حال فهي نفثة مصدور وشقشقة هدرت ثمّ قرّت ـ كما عبّر عنها (عليه السلام) ـ .

وبالجملة انّ تظلّم أميرالمؤمنين (عليه السلام) بعد رحيل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) وفي فترة خلافته الظاهرية ثبت بالتواتر المعنوي عند الشيعة والسنة، ممّا لا يدع مجالاً للشك في عدم صحة ما تفرّد بروايته إخواننا أهل السنة من أخبار آحاد في مدح أميرالمؤمنين (عليه السلام) لمن تقدّمه وتفضيلهم على نفسه، لتكون معارضة لهذه الخطبة وأمثالها المتضمّنة للتظلّم والشكوى عمّن تقدّم.

أمّا الأوصاف التي وردت لكلّ واحد من الخلفاء، فهي أوصاف صادقة يشهد التاريخ بصحّتها، وسنشير إليها في موردها.

[2] ـ سدلت الثوب: أرخيته.

[3] ـ الكشح: ما بين الخاصرة إلى أقصر الأضلاع، يقال: فلان طوى كشحه: أي أعرض مهاجراً ومال عنّي.

[4] ـ الجذّاء: المقطوعة. قال ابن الأثير في النهاية: في حديث عليّ (عليه السلام): «أصول بيد جذّاء» كنّى به عن قصور أصحابه وتقاعدهم عن الغزو، فإنّ الجند للأمير كاليد.

[5] ـ الطخية: الظلمة.

[6] ـ روى خبر الإقالة كثير من الناس ـ كما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1 :169 ـ منهم أحمد بن حنبل (ت241) في فضائل الصحابة 1 :151 ح133 وفيه: «انّه أغلق بابه ثلاثاً يقول: أيّها الناس أقيلوني بيعتكم، كل ذلك يقول له عليّ لا نقيلك ولا نستقيلك» نحن وإن لم نؤيّد صحة ذيل الحديث، ولكنّما أوردناه كشاهد لما ورد عندهم. وروى خبر الاستقالة أيضاً ابن قتيبة (ت276) في الإمامة والسياسة 1: 31، والقرطبي (ت671) في تفسيره 1 :272، هذا بالاضافة إلى ما ورد عن أبي بكر من انّه ندم عند موته على أمور وودّ لو تركها، منها انّه يترك الخلافة يوم السقيفة، كما ورد في تاريخ الطبري 2: 619، وكنز العمال 5 :632 ح14113 عن عدة مصادر.

[7] ـ تشطّرا ضرعيها: أي كلّ واحد منهما أخذ نصفاً من ضرعي الخلافة. وقد قال (عليه السلام) لعمر يوم السقيفة: «احلب حلباً لك شطره» رواه ابن قتيبة (ت276) في الامامة والسياسة 1 :29، والبلاذري (ت279) في أنساب الأشراف 2 :771 في أمر السقيفة.

[8] ـ الكَلْم: الجرح.

والتاريخ يؤيّد ذلك سواء أكان قبل الإسلام أم بعده، فقبل الإسلام ما صدر عنه بحقّ أُخته وختنه حيث أدمى رأسه [اُسد الغابة 5 :519] وكما ضرب جارية حتى ملّ من ضربها [سيرة ابن هشام 1 :211]، أمّا بعد إسلامه وفي زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما حدث عنه في صلح الحديبية من المحاولة لنقض مصالحة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) [راجع صحيح ابن حبان 11 :224 حيث صرّح بأنّه عمل أعمالاً لنقض الصحيفة] وما صدر من ضرب أبي هريرة حتى خرّ لأسته، كما ورد في صحيح مسلم 1 :44، وفي مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعندما طلب الدواة والقلم ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً فقال: غلبه الوجع أو انّه ليهجر ـ والعياذ بالله ـ [كما في صحيح مسلم والبخاري]، أو ما صدر منه بعد زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) من إرادة قتل سعد بن عبادة في السقيفة، أو الإقدام على بيت أميرالمؤمنين (عليه السلام) لأخذ البيعة، أو ضرب أم فروة بنت أبي بكر لما ناحت في وفاة أبيها، أو خرق الصحائف وتمزيقها، إلى غيرها من الموارد الكثيرة والمتواترة التي أثبتتها الصحاح والمسانيد.

[9] ـ يعني انّه كان كثيراً ما يحكم بالأمر ثمّ ينقضه، ويفتي بالفتيا ثمّ يرجع عنها، ويعتذر ممّا أفتى به أولا، حتى انّه قال: «كلّ الناس أفقه من عمر» [راجع السنن الكبرى للبيهقي 7 :233، وابن كثير في تفسيره 1 : 478 والسيوطي في الدرّ المنثور 2 :133].

[10] ـ الشِماس: التلوّن في الإنسان بأن لا يثبت على خلق واحد.

[11] ـ الاعتراض: السير على غير استقامة، كأنّه يسير عرضاً.

[12] ـ أسفّ الطائر: إذا دنا من الأرض في طيرانه.

[13] ـ أي مع أمور يكنّي عنها ولا يصرّح بذكرها.

[14] ـ الحِضن: مادون الإبط إلى الكَشح، والنفج: الرفع. يقال لمن امتلأ بطنه طعاماً: جاء نافجاً حضنيه.

[15] ـ النثيل: الروث.

[16] ـ الخَضم: الأكل بجميع الفم.

[17] ـ انتكث فتله: أي انتقض.

[18] ـ أما أمر عثمان وما فعل في خلافته من استئثار بني أبيه بالملك والأموال والهدايا، فممّا لا شك فيه، ولا يحتاج إلى مزيد توضيح بعدما ملأت أحداثه كتب السير والتاريخ، وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قوله: «إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دغلاً» [المستدرك للحاكم 4 :480 وصححه] وأيضاً: «انّي اُريت في منامي كأنّ بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة» [المستدرك للحاكم 4: 480 وصححه].

وقد تحقّقت هذه الرؤيا التي أزعجت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأقلقته على يد عثمان، واستمرّ الحال هكذا إلى أن نقم عليه المسلمون وفي صدارتهم الصحابة. روى الطبري أنّه لما رأى الناس ما صنع عثمان كتب مَن بالمدينة من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى من بالآفاق منهم، وكانوا قد تفرّقوا في الثغور: «إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ تطلبون دين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فإنّ دين محمّد قد اُفسد من خلفكم وترك، فهلمّوا فأقيموا دين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فأقبلوا من كلّ اُفق حتى قتلوه» [تاريخ الطبري 3 :400].

[19] ـ النسمة: النفس والروح.

[20] ـ الكِظَّة: ما يعتري الإنسان من الإمتلاء من الطعام.

[21] ـ الغارب: ما بين السنام والعنق.

[22] ـ الشِقشقة: ما يخرجه البعير من فيه إذا هاج.

[23] ـ هدير الجمل: ترديده الصوت في حنجرته.