[27] ومن عهد له (عليه السلام) إلى محمّد بن أبي بكر حين قلّده مصر([1])
فَاخْفِضْ لَـهُمْ جَنَاحَكَ، وَأَلِنْ لَـهُمْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ لَـهُمْ وَجْهَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَـهُمْ([2])، وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ. وَإنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَالْكَبِيرَةِ، وَالظَّاهِرَةِ وَالْـمَسْتُورَةِ، فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ، وَإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ.
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ الْـمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الآخِرَةِ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَلَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ; سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ، وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْـمُتْرَفُونَ، وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْـجَبَابِرَةُ الْـمُتَكَبِّرُونَ، ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْـمُبَلِّغِ، وَالْـمَتْجَرِ الرَّابِحِ، أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ، لا تُرَدُّ لَـهُمْ دَعْوَةٌ، وَلا يَنْقُصُ لَـهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ.
فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللهِ الْـمَوْتَ وَقُرْبَهُ، وَأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ جَلِيلٍ، بِخَيْرٍ لا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً؛ أَوْ شَرٍّ لا يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً، فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْـجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا! وَمَنْ أَقْرَبُ إِلى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا! وَأَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْـمَوْتِ([3])، إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ، وَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ، وَهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ، الْـمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ، وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ.
فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَحَرُّهَا شَدِيدٌ، وَعَذَابُهَا جَدِيدٌ، دَارٌ لَيْسَ فِيها رَحْمَةٌ، وَلا تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ، وَلا تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ. وَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ، فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً للهِ.
وَاعْلَمْ ـ يَا مُحَمَّدُ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ـ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ، فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ([4]) أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ، وَأَنْ تُنَافِحَ([5]) عَنْ دِينِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ، وَلا تُسْخِطِ اللهَ بِرِضا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَإِنَّ فِي اللهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ . صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا الْـمُوَقَّتِ لَـهَا ، وَلا تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ، وَلا تُؤْخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاشْتِغَالٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلَاتِكَ.
ومن هذا العهد
فَإِنَّهُ لا سَوَاءَ إِمَامُ الْـهُدَى وَإِمَامُ الرَّدَى، وَوَلِيُّ النَّبِىِّ وَعَدُوُّ النَّبِيِّ، وَلَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): «إِنِّي لا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَلا مُشْرِكاً، أَمَّا الْـمُؤمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ، وَأَمَّا الْـمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللهُ بِشِرْكِهِ، وَلكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْـجَنَانِ، عَالِمِ اللِّسَانِ، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ، وَيَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ».