[23] ومن خطبة له (عليه السلام) (3)
[وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الأغنياء بالشفقة]
أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الأمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إِلَى الأرْضِ كَقَطرِ المَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ
لَـهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ؛ فإذا رَأَى أَحَدُكُمْ لاَِخِيهِ غَفِيرَةً([1]) في أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلَا تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ المَرْءَ المُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَـهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالفَالِجِ اليَاسِرِ([2]) الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ المَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ عَنْهُ بِهَا المَغْرَمُ. وَكَذْلِكَ المَرْءُ الـمُسْلِمُ البَرِيءُ مِنَ الخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ، فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ.
إِنَّ المَالَ وَالبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ؛ وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لِأَقْوَامٍ، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ([3])، وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاءٍ وَلا سُمْعَةٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ. نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الأنْبِيَاءِ.
أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لا يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً([4]) مِنْ وَرَائِهِ، وأَلَـمُّهُمْ لِشَعَثِهِ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إنْ نَزَلَتْ بِهِ، وَلِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ يُورِّثُهُ غيرَهُ.
منها
أَلَا لا يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ القَرَابَةِ يَرَى بِهَا الخَصَاصَةَ أنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لايَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَلا يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ، وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ; وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ.
قال السيد: [أقُولُ: الغَفِيرَةُ ـ هاهنا ـ الزِّيادةُ والكثرةُ؛ مِن قولِهمِ للجمعِ الكثير: الجَمُّ الغفِير، والجمّاءُ الغَفِير. ويُرْوى: «عَفْوَةً من أهل أو مالٍ»، والعَفْوَة: الخِيار من الشَّيء؛ يقال: أكلتُ عَفْوَة الطعامِ، أي: خِيارَه] وما أحسنَ المعنى الذي أراده (عليه السلام) بقوله: «ومن يَقْبضْ يده عن عشيرته...» إلى تمام الكلام، فإنَّ الـمُمْسِك خَيْرَه عن عَشِيرَتِه إِنّما يُمسِكُ نَفْعَ يدٍ واحدةٍ; فإذا احتاج إلى نُصرَتِهم، واضْطَرَّ إلى مرافَدَتِهِم، قَعدُوا عن نصرِهِ، وَتَثاقَلوا عن صَوْتِهِ([5])؛ فَمُنِع ترافُدَ الأيدي الكثيرةِ، وتَنَاهُضَ الأقدامِ الـجَمّةِ.
(ت329) في الكافي 5: 57 ح6 قال: «عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة، عن يحيى بن عقيل، عن حسن»، وابن عساكر (ت571) في تاريخ دمشق 42: 502 بسندين أحدهما قال: «أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي، أنا أبو محمّد أحمد بن عليّ بن الحسن بن أبي عثمان، أنا أبو طاهر محمّد بن عليّ بن عبدالله بن مهدي، أنا أبو طاهر أحمد بن محمّد ابن عمرو المدني، نا يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة الصدقي، نا يحيى بن حسّان، حدّثني محمّد بن مسلم ابن أبي الوضّاح البصري، حدّثني ثابت أبو سعيد، حدّثني يحيى بن يعمر ...» والثاني قال: «أخبرنا هبة الله بن أحمد بن عبدالله، أنا عاصم بن الحسن بن محمّد، أنا محمود بن عمر بن جعفر بن إسحاق، أنا عليّ بن الفرج بن أبي روح، نا عبدالله بن محمّد بن أبي الدنيا، نا إسحاق بن إسماعيل، نا سفيان بن عيينة، عن أبي حمزة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر ...». ورواها الحميري (ت300) في قرب الإسناد: 38 ح123 وكذلك القمي (ت329) في تفسيره 2: 36 عن أبي عبدالله (عليه السلام). واستشهد الزمخشري (ت538) في الفائق 3: 422 (يسر) وابن الأثير (ت606) في النهاية 3: 374 (غفر) 3: 468 (فلج) ببعض فقراتها.
أما الشقّ الثاني فقد رواه ابن قتيبة (ت276) في الامامة والسياسة 1: 70، والكليني (ت329) في الكافي 2: 154 ح19 «عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عثمان بن عيسى، عن يحيى، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): لن يرغب المرء عن عشيرته ...».
[1] ـ الغفيرة: الزيادة والكثرة.
[2] ـ الفالج: الظافر الفائز. والياسر: الذي يلعب بالقداح، واليَسَر مثله.
[3] ـ التعذير في الأمر: التقصير فيه، وأعذر: قصّر ولم يبالغ وهو يرى انّه مبالغ.
[4] ـ الحيطة: الرعاية.
[5] ـ كذا في النسخ المعتمدة، وفي البحار 71: 105 «عن صونه».