[86] ومن خطبة له (عليه السلام) ([1])
[وهي في بيان صفات المتقين وصفات الفساق والتنبيه إلى مكان
العترة الطيبة والظنّ الخاطئ لبعض الناس]
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْـحُزْنَ، وَتَجَلْبَبَ الْـخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْـهُدَى فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ الْقِرَى([2]) لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ، نَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وَارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ، فَشَرِبَ نَهَلاً([3])، وَسَلَكَ سَبِيلاً جَدَداً([4]).
قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْـهُمُومِ، إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى، وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْـهَوَى، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْـهُدَى، وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى. قَدْ أبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ([5])، وَقَطَعَ غِمَارَهُ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ للهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الأمُورِ، مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ، وَتَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلى أَصْلِهِ. مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ، كَشَّافُ عَشَوَاتٍ([6])، مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ، دَفَّاعُ مُعْضِلاَتٍ، دَلِيلُ فَلَوَاتٍ، يَقُولُ فَيُفْهِمُ، وَيَسْكُتُ فَيَسْلَمُ.
قَدْ أَخْلَصَ للهِ فَاسْتَخْلَصَهُ، فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ، وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ. قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْـهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْـحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا، وَلا مَظِنَّةً إِلاَّ قَصَدَهَا، قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ، فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ([7])، وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ.
وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّلٍ، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حِبَالِ غُرُورٍ، وَقَوْلِ زُورٍ، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ، وَعَطَفَ الْـحَقَّ عَلى أَهْوَائِهِ، يُؤَمِّنُ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ الْـجَرَائِمِ، يَقُولُ: أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَفِيهَا وَقَعَ، وَيَقُولُ: أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ، لا يَعْرِفُ بَابَ الْـهُدَى فَيَتَّبِعَهُ، وَلا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ، فَذلِكَ مَيِّتُ الأحْيَاءِ.
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وأَنَّى تُؤْفَكُونَ! وَالأعْلاَمُ قَائِمَةٌ، وَالآيَاتُ وَاضِحَةٌ، وَالْـمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ! بَلْ كَيْفَ تَعْمَهُونَ([8]) وَبَيْنَكُمْ عِترَةُ نَبِيِّكُمْ! وَهُمْ أَزِمَّةُ الْـحَقِّ [وَأَعْلامُ الدِّيْنِ]، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ! فأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ([9]) الْعِطَاشِ.
أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): «إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَلَيْسَ بِمَيِّتٍ، وَيَبْلَى مَنْ بَلـِيَ مِنَّا وَلَيْسَ بِبَالٍ»، فَلاَ تَقُولُوا بِمَا لاَتَعْرِفُونَ، فَإنَّ أَكْثَرَ الْـحَقِّ فِيَما تُنْكِرُونَ، وَاعْذِرُوا مَنْ لا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ ـ وَأَنَا هُوَ ـ أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الأكْبَرِ! وَأَتْرُكُ فِيكُمُ الثَّقَلَ الأصْغَرَ! وَرَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الاِيمَانِ، وَوَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْـحَلاَلِ وَالْـحَرَامِ، وَأَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي، وَفَرَشْتُكُمُ الْـمَعْرُوفَ([10]) مِنْ قَوْلي وَفِعْلي، وَأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الأخْلاَقِ مِنْ نَفْسِي! فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيَما لا يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ، وَلا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ.
منها: [في دولة بني اُميّة]
حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ؛ تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا، وَتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا، وَلا يُرْفَعُ عَنْ هذِهِ الأمَّةِ سَوْطُهَا وَلا سَيْفُهَا، وَكَذَبَ الظَّانُّ لِذلِكَ بَلْ هِيَ مَجَّةٌ([11]) مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً، ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً.
[1] ـ قـال ابن أبي الحديد في شرحه 6: 382 : «وهـذه الخطبة طويلة ، وقـد حذف الرضي رحمـه الله تعالى منها كثيراً» ثمّ ذكر بعض ما حذفه، ممّا يشعر بأنّه وجدها كاملة من غير طريق الشريف الرضي.
[2] ـ القرى: طعام الضيف.
[3] ـ شرب نهلاً: شرب حتى رُوي، أو الاكتفاء بالشرب الأوّل.
[4] ـ طريق جدد: لا عثار فيه لقوّة أرضه.
[5] ـ المَنار: عَلَم الطريق.
[6] ـ العشوة: الأمر الملتبس.
[7] ـ الثَقَل: متاع المسافر وحَشَمه.
[8] ـ تعمهون: تتحيرون وتضلّون.
[9] ـ الهيم: الإبل العطاش.
واعلم أنّ هذا الكلام منه (عليه السلام) يدلّ على عصمته وعصمة العترة :، وبه يُجاب عمّا تمسّك به البعض بنصوص نهج البلاغة لنفي العصمة.
[10] ـ فرشتكم المعروف: أي جعلته لكم فراشاً.
[11] ـ المجاج والمجاجة: الريق الذي تمجّه من فيك.