[91] ومن كلام له (عليه السلام) لمّا أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان([1])
دَعُونِي وَالْـتَمِسُوا غَيْرِي؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ؛ لا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْـمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ; وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِـمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!
[1] ـ ذكره الطبري (ت 310) في تاريخه 3: 456، وابن مسكويه (ت 421) في تجارب الامم 1: 508، باختلاف. وقد اتُخِذَ هذا الكلام ذريعةً للطعن على الإمامية لموقفهم اتجاه الإمامة، ولزوم النص والنصب الإلهي، وكثيراً ما احتجّ به أهل السنة قديماً وحديثاً، إذ أنّها لو كانت كذلك وكما تدّعون لما تخلّى عنها أميرالمؤمنين (عليه السلام). وقد ذهب علماؤنا في تفسير هذا الكلام أو تأويله مذاهب مختلفة نوجزها فيما يلي:
أوّلاً: تضعيف صدور هذا الكلام من أميرالمؤمنين (عليه السلام) لوروده عن طريق سيف، وهو وضّاع كذّاب.
ثانياً: إنّ الذين أرادوا بيعته هم الذين بايعوا من كان قبله، واعتادوا على سيرتهم، فأرادوا منه (عليه السلام) أن يسير فيهم بتلك السيرة، فأبى وقال: دعوني واتركوني أن أتقلّد ما تريدون، واطلبوا غيري ليسير فيكم بسيرتهم.
ثالثاً: إنّ كلامه هذا كلام عاتب وشاك من أصحابه، يقول لهم: دعوني والتمسوا غيري، على طريق الضجر منهم والتبرم والتسخّط لأفعالهم، لأنّهم كانوا عدلوا عنه من قبل واختاروا عليه، فلما طلبوه بعدُ أجابهم جواب المسخط العاتب.
رابعاً: إنّه (عليه السلام) أخرجه مخرج التهكّم والسخرية، أي أنا لكم وزيراً خير منّي لكم أميراً فيما تعتقدونه، كما قال سبحانه: «ذق انّك أنت العزيز الكريم» أي تزعم لنفسك ذلك وتعتقده.
خامساً: إنّهم كانوا يعتقدون بخلافته كاعتقادهم بخلافة غيره، ولا يرونه منصوباً ومنصوصاً عليه من قبل الله تعالى بحيث تكون طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله كالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فلم يكن حينئذٍ واجباً عليه قبول رئاستهم، فأيّ مانع أن يقول: دعوني والتمسوا غيري لإمامتكم المصنوعة، وأمّا كونه وزيراً لهم خيراً لهم من إمارته، لأنّه لو خرجوا عليه في إمارته لكفروا بخلاف ما لم يكن حاكماً مبسوط اليد.
سادساً: انّ الإمامة عندنا نيابة وخلافة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في جميع المراتب سوى تلقي الوحي، والزعامة السياسية أحد أركان الإمامة، وهذا الركن وإن كان ثابتاً للإمام بالنص الإلهي، غير انّ تحققه وتفعيله على أرض الواقع منوط بشرائط مختلفة إذا اجتمعت كلّها وجب على الإمام التصدي وإلاّ فلا، فتفعيل الزعامة السياسية وتطبيقها على أرض الواقع ـ كما فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في أخذ البيعة الاُولى في العقبة ـ أو تركها والتخلّي عنها لظروف خاصة ـ كما فعل أميرالمؤمنين (عليه السلام) ـ لا يضرّ بثبوتها الإلهي.