[92] ومن خطبة له (عليه السلام)([1])
[وفيها ينبِّه أَمير المؤمنين على فضله وعلمه ويبيّن فتنة بني أُميّة]
أَمَّا بَعْد، أَيُّهَا النَّاسُ فَأَنا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا([2])، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا([3]).
فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَلا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مائةً وَتُضِلُّ مائةً إِلاَّ نَبَّأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمنَاخِ رِكَابِهَا، وَمَحَطِّ رِحَالِـهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً.
وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَنَزَلَتْ كَرَائِهُ الأمُورِ، وَحَوَازِبُ([4]) الْـخُطُوبِ، لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ، وَفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ المَسْؤُولِينَ، وَذلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ([5]) حَرْبُكُمْ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ، وَضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ الْبَلاَءِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ لِبَقِيَّةِ الأَبْرَارِ مِنْكُمْ. إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً. أَلاَ وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي اُمَيَّةَ، فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ، عَمَّتْ خُطَّتُهَا([6])، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا. وَايْمُ اللهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سَوْءٍ بَعْدِي، كَالنَّابِ الضَّرُوسِ([7]): تَعْذِمُ([8]) بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وتَزْبِنُ([9]) بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لا يَترُكُوا مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَـهُمْ، أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ، وَلا يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ حَتَّى لا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلَ انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ، تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً([10])، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى، وَلا عَلَمٌ يُرَى.
نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِنَجَاةٍ، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الأَدِيمِ([11]) بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ([12])، لا يُعْطِيهِمْ إِلاَّ السَّيْفَ، وَلا يُحْلِسُهُمْ([13]) إِلاَّ الْـخَوْفَ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ ـ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ـ لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزْورٍ([14])، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونِيهِ!
[1] ـ رويت بألفاظ متفاوتة، فقد رواها ابن أبي شيبة (ت 235) في المصنف 8: 698، قال: «حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدّثنا عبدالرحمن بن حميد الرؤاسي، قال: حدّثنا عمرو بن قيس، عن المنهال بن عمرو، قال عبدالرحمن: أظنّه قيس بن سكن، قال: قال عليّ...». والثقفي (ت 283) في الغارات 1: 3 قال: «أخبرني أحمد بن عمران بن محمّد بن أبي ليلى الأنصاري، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش». واليعقوبي (ت 284) في تاريخه 2: 193 مختصراً، والنسائي (ت 303) في الخصائص: 146 روى صدره فقط، قال: «أخبرني محمّد بن عبيد، قال: حدّثنا أبو مالك وهو عمرو بن قيس، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش» وكذلك رواه في السنن الكبرى 5: 165 ح 8574، والقاضي النعمان (ت 363) في شرح الأخبار 2: 38، وفسّر غريبها ابن الأثير (ت 606) في النهاية 1: 377 و3: 200، وقال ابن أبي الحديد (ت656) في شرحه 7: 57: «وهذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير وهي متداولة منقولة مستفيضة...».
[2] ـ الغيهب: الظلمة.
[3] ـ اشتد كلبها: أي شرّها.
[4] ـ الحوازب: جمع حازب، وهو الأمر الشديد.
[5] ـ قلصت: ارتفعت.
[6] ـ الخُطّة: الأمر والقصة.
[7] ـ الناب: الناقة المسنّة، والضروس: السيئة الخلق تعضّ حالبها.
[8] ـ تعذم: تعضّ.
[9] ـ الزبن: الدفع، وزبنت الناقة إذا ضربت بثفنات رجلها عند الحلب.
[10] ـ الشوهاء: القبيحة، والمخشيّة: المخوفة المرعبة.
[11] ـ الأديم: الجلد، أي ككشف الجلد عن اللحم.
[12] ـ كأس مصبّرة: ممزوجة بالصبر لهذا المر.
[13] ـ الحلس: كساء رقيق يجعل تحت البرذعة، أي يلزمهم الخوف.
[14] ـ الجزر: النحر، والجزور: الناقة التي تُجزر.