[98] ومن خطبة له (عليه السلام) ([1])
[في التزهيد من الدنيا]
نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ، وَنَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنَا عَلَى مَا يَكُونُ، وَنَسْأَلُهُ الْـمُعَافَاةَ في الأَدْيَانِ، كَمَا نَسَأَلُهُ الْـمُعَافَاةَ فِي الأبْدَانِ.
أُوصِيكُمْ عِبادَ اللهِ بِالرَّفْضِ لِهذهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا، وَالْـمُبْلِيَةِ لاَِجْسَامِكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَسَفْرٍ([2]) سَلَكُوا سَبِيلاً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ، وَأَمُّوا عَلَماً([3]) فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ، وَكَمْ عَسَى الْـمُجْرِي([4]) إِلَى الْغَايَةِ أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا! وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لا يَعْدُوهُ، وَطَالِبٌ حَثِيثٌ يَحْدُوهُ([5]) فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا!
فَلاَ تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَفَخْرِهَا، وَلا تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَلا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَبُؤْسِهَا، فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاع، وَزِينَتَهَا وَنَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ، وَضَرَّاءَهَا وَبُؤْسَهَا إِلَى نَفَادٍ، وَكُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى انْتِهَاءٍ، وَكُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ.
أَوَلَيْسَ لَكُمْ في آثَارِ الأوَّلِينَ [مُزْدَجَرٌ]، وَفِي آبَائِكُمُ الْـمَاضِينَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ! أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْـمَاضِينَ مِنْكُمْ لا يَرْجِعُونَ، وَإِلَى الْـخَلَفِ البَاقِي لا يَبْقَوْنَ! أوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُمْسُونَ ويُصْبِحُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى: فَمَيِّتٌ يُبْكَى، وَآخَرُ يُعَزَّى، وَصَرِيعٌ مُبْتَلًى، وَعَائِدٌ يَعُودُ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ، وَطَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَالْـمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ; وَعَلَى أَثَرِ الْـمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي.
أَلاَ فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَقَاطِعَ الأُمْنِيَّاتِ، عِنْدَ الْـمُسَاوَرَةِ([6]) لِلأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، وَاسْتَعِينُوا اللهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ، وَمَا لا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.
[1] ـ روى الإسكافي (ت 220) في المعيار والموازنة: 271 من قوله: «فاتركوا هذه الدنيا التاركة لكم» الى قوله: «وأمّوا علماً فكأنّهم قد بلغوه». ورواها الشيخ الصدوق (ت 381) في من لا يحضره الفقيه 1: 429 ح 1263، وروى أيضاً في الأمالي: 478 ح 644 وفي معاني الأخبار: 198 من قوله: «أما ترون الى أهل الدنيا» الى قوله: «وعلى أثر الماضي يصير الباقي»، ورواها أيضاً باختلاف ابن سلامة (ت 454) في دستور معالم الحكم: 49، والشيخ الطوسي (ت 460) في مصباح المتهجد: 381 ح 508 عن زيد بن وهب.
[2] ـ قوم سفر: أي مسافرون.
[3] ـ أمّوا علماً: أي قصدوا جبلاً.
[4] ـ المجري ويجري: من أجريت الفرس أي أرسلتها، ثم نقل ذلك الى كل من يقصد بكلامه معنى أو بفعله غرضاً.
[5] ـ الحثيث: السريع، ويحدوه: يسوقه.
[6] ـ المساورة: المواثبة.