[107] ومن خطبة له (عليه السلام) وهي من خطب الملاحم
الْـحَمْدُ للهِِ الْـمُتَجَلِّي لِـخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ، وَالظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ، خَلَقَ الْـخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لا تَلِيقُ إلَّا بِذَوي الضَّمائِرِ([1])، وَلَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ، خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ، وَأَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ.
منها: في ذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الأَنْبِيَاءِ، وَمِشْكَاةِ الضِّيَاءِ، وَذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ([2])، وَسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ([3])، وَمَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، وَيَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ.
منها
طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ([4])، وَأَحْمى مَوَاسِمَهُ([5])، يَضَعُ مِنْ ذلِكَ حَيْثُ الْـحَاجَةُ إِلَيْهِ، مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ؛ وَآذَانٍ صُمٍّ، وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ؛ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْـحَيْرَةِ؛ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ; فَهُمْ فِي ذلِكَ كَالأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ.
قَدِ انْجَابَتِ([6]) السَّرائِرُ لِأهْلِ الْبَصَائِرِ، وَوَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْـحَقِّ لِخَابِطِهَا([7])، وَأَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَظَهَرَتِ الْعَلَامَةُ لِـمُتَوَسِّمِهَا([8]). مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاحٍ، وَأَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاحٍ، وَنُسَّاكاً بِلاَ صَلاَحٍ، وَتُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاحٍ، وَأَيْقَاظاً نُوَّماً، وَشُهُوداً غُيَّباً، وَنَاظِرَةً عُمْيَاً، وسَامِعَةً صُمَّاً، وَنَاطِقَةً بُكْماً! رَايَةُ ضَلاَلةٍ قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا([9])، وَتَفرَّقَتْ بِشُعَبِهَا([10])، تَكِيلُكُمْ([11]) بِصَاعِهَا، وَتَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا([12]). قَائِدُهَا خَارجٌ مِنَ الْـمِلَّةِ، قَائِمٌ عَلَى الضِّلَّةِ; فَلاَ يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إلَّا ثُفَالَةٌ([13]) كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ، أَوْ نُفَاضَةٌ([14]) كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ([15])، تَعْرُكُكُمْ([16]) عَرْكَ الأَدِيمِ، وَتَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْـحَصِيْدِ، وَتَسْتَخْلِصُ الْـمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اسْتِخْلَاصَ الطَّيْرِ الْـحَبَّةَ الْبَطِينَةَ مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْـحَبِّ.
أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْـمَذَاهِبُ، وَتَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ، وَتَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ، وَمِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ، وَأَنَّى تٌؤْفَكُون؟ فَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، وَلِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ، فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ، وَأَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ، واسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ، وَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ، وَلْيَجْمَعْ شَمْلَـهُ، وَلْيُحْضِرْ ذِهْنَـهُ ، فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الأَمْرَ فَلْقَ الْـخَرَزَةِ([17]) ، وَقَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ([18]).
فَعِنْدَ ذلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ، وَرَكِبَ الْـجَهْلُ مَرَاكِبَهُ، وَعَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ،
وَقَلَّتِ الدَّاعِيَةُ، وَصَالَ([19]) الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ، وَهَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ([20]) بَعْدَ كُظُومٍ([21])، وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ، وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ.
فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً([22])، وَالْـمَطَرُ قَيْظاً([23])، وَتَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضَاً، وَتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً، وَكَانَ أَهْلُ ذلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً، وَسَلَاطِينُهُ سِبَاعاً، وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالاً([24])، وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً، وَغَارَ الصِّدْقُ، وَفَاضَ الْكَذِبُ، وَاسْتُعْمِلَتِ الْـمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ، وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ، وَصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً، وَالْعَفَافُ عَجَباً، وَلُبِسَ الاِسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً.
[1] ـ ذوو الضمائر: أي الذين لهم قلوب في الصدور.
[2] ـ الذؤابة: طائفة من شعر الرأس، والعلياء: كل مكان مشرف.
[3] ـ سرة البطحاء: خيارها.
[4] ـ المراهم: الأدوية المركبة للجراحات والقروح.
[5] ـ المواسم: المكواة والحديد الذي يوسم به الخيل وغيرها.
[6] ـ انجابت: انكشفت.
[7] ـ الخابط: السائر على غير طريق.
[8] ـ المتوسّم: المتفرّس.
[9] ـ القطب: الرئيس الذي عليه يدور الأمر، وهو كناية عن انتظام أمر راية الضلالة واستحكام قوتها.
[10] ـ الشُعَب: ما تشعّب من قبائل العرب والعجم.
[11] ـ تكيلكم: أي تتقدمكم في الأحوال وتقلقلكم كما يقلقل الكائل المكيل.
[12] ـ الخبط: ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها، أو من خبط البعير الأرض بيده أي ضربها. والباع: قدر مدّ اليدين.
[13] ـ ثفالة القدر: ما سفل فيه من الطبيخ.
[14] ـ النفاضة: ما سقط من الشيء المنفوض.
[15] ـ العكم: العِدل.
[16] ـ العرك: الدلك الشديد.
[17] ـ فلق لكم...: أي شق ما كان مبهماً، وفتح ما كان مغلقاً، كما تفلق الخرزة فيُعرف باطنها.
[18] ـ قَرَفَه: قشره، والصمغة: من الصمغ، وهو ما ينحلب من الشجر.
[19] ـ الصيال: حملة الأسد الذي يعقر.
[20] ـ هدر: صاح. وفنيق الباطل: فحله.
[21] ـ الكظوم: الامساك والسكوت.
[22] ـ كان الولد غيظاً: أي يغيظ والديه.
[23] ـ القيظ: الصيف، أي لا يكون المطر مثمراً بل مضرّاً.
[24] ـ أُكّالا: طعاماً.