[113] ومن خطبة له (عليه السلام) ([1])
[وفيها مواعظ للناس]
الْـحَمْدُ للهِ الْوَاصِلِ الْـحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَى آلاَئِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلاَئِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى هذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ، السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُ كِتَابُهُ، عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ؛ وَكِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ، وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ، وَوَقَفَ عَلَى الْـمَوْعُودِ، إِيمَاناً نَفَى إِخْلاَصُهُ الشِّرْكَ، وَيَقِينُهُ الشَّكَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ، وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ، لاَيَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ، وَلا يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْهُ.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّتي هِيَ الزَّادُ وَبِهَا الْـمَعَاذُ؛ زَادٌ مُبْلِغٌ وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ([2])؛ دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ، وَوَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ، فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا، وَفَازَ وَاعِيهَا.
عِبَادَ اللهِ؛ إِنَّ تَقْوَى اللهِ حَمَتْ أوْلِيَاءَ اللهِ مَحَارِمَهُ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ، حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ([3]); فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ، وَالرِّيَّ بِالظَّمَإِ، وَاسْتَقْرَبُوا الأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وَكَذَّبُوا الأَمَلَ فَلاَحَظُوا الأَجَلَ.
ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ، وَعَنَاءٍ، وَغِيَرٍ([4])، وَعِبَرٍ؛ فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ([5])، لا تُخْطِىءُ سِهَامُهُ، وَلا تُؤْسَى([6])جِرَاحُهُ، يَرْمِي الْـحَيَّ بِالْـمَوْتِ، وَالصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ، وَالنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ، آكِلٌ لا يَشْبَعُ، وَشَارِبٌ لا يَنْقَعُ([7]). وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْـمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لا يَأْكُلُ، وَيَبْنِي مَا لا يَسْكُنُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللهِ، لا مَالاً حَمَلَ، وَلا بِنَاءً نَقَلَ! وَمِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْـمَرْحُومَ مَغْبُوطاً، والْـمَغْبُوطَ مَرْحُوماً، لَيْسَ ذلِكَ إلَّا نَعِيماً زَلَّ([8])، وَبُؤْساً نَزَلَ.
وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْـمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ، فَلاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ، وَلا مُؤَمَّلٌ يُترَكُ. فَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَغَرَّ سُرُورَهَا! وَأَظْمَأَ رَيَّهَا! وَأَضْحَى([9]) فَيْئَهَا! لا جَاءٍ يُرَدُّ([10])، وَلا مَاضٍ يَرْتَدُّ([11]). فَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَقْرَبَ الْـحَيَّ مِنَ المَيِّتِ لِلِحَاقِهِ بِهِ، وَأَبْعَدَ الْـمَيِّتَ مِنَ الْـحَيِّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ! إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إلَّا عِقَابُهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْرٍ مِنَ الْـخَيْرِ إلَّا ثَوَابُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الآخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ، فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ، وَمِنَ الْغَيْبِ الْـخَبَرُ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ في الآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الآخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا: فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابحٍ وَمَزِيدٍ خَاسِرٍ! إنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فَذَرُوا مَا قَلَّ لِـمَا كَثُرَ، وَمَا ضَاقَ لِـمَا اتَّسَعَ.
قَدْ تُكُفِّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ، وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ، فَلاَ يَكُونَنَّ الْـمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْـمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ، مَعَ أَنَّهُ واللهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ، وَدَخَلَ([12]) الْيَقِينُ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَكَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ.
فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الأَجَلِ، فَإِنَّهُ لا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ ، مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ ، وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ. الرَّجَاءُ مَعَ الْـجَائِي، وَالْيَأْسُ مَعَ الْـمَاضِي، فـَ<اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ>.
[1] ـ رواها باختلاف وزيادة ونقصان كل من ابن شعبة (ق 4) في تحف العقول: 219 من قوله: إنّما الدنيا دار فناء وعناء ـ الى قوله: أضحى فيئها، وكذلك رواها ابن سلامة (ت 454) في دستور معالم الحكم: 33، ورواها الطوسي (ت 460) في الأمالي: 443 ح 992 عن الحسين بن عبيدالله، عن أبي محمّد هارون ابن موسى التلعكبري، قال: حدّثنا أبو العبّاس بن عقدة، قال: حدّثنا الحسن بن عليّ بن إبراهيم العلوي، قال: حدّثنا الحسين بن عليّ الخزاز وهو ابن بنت الياس، قال: حدّثنا ثعلبة بن ميمون، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: كان أميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول: إنّما الدنيا فناء وعناء ـ الى قوله: ـ أجله.
[2] ـ معاذ منجح: أي يصادف عنده النجاح.
[3] ـ الظمأ: العطش أو شدته، والهواجر جمع الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر، والمراد صومهم في الأيام الحارة.
[4] ـ الغِيَر: تقلّب الأحوال.
[5] ـ أوتر القوس: أي جعل لها وتراً وتهيّأ للرمي.
[6] ـ لا تؤسى: لا تعالج ولا تصلح.
[7] ـ لا ينقع: لا يروى، يقال: نقعت أي ارويت.
[8] ـ الزليل والزلول: الذي يمرّ سريعاً.
[9] ـ ضَحى الشمس: برز لها.
[10] ـ لا جاء يُرد: أراد به الموت.
[11] ـ لا ماض يرتد: أراد به الميت.
[12] ـ دَخلَ اليقين: صار دخيلاً ومعيوباً.