[146] ومن كلام له(عليه السلام) ([1])
وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه.
إِنَّ هذَا الأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلا خِذْلاَنُهُ بِكَثْرَةٍ وَلا بِقِلَّةٍ، وَهُوَ دِينُ اللهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ، وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ، وَطَلَعَ حَيْثُ طَلَعَ، وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللهِ، وَاللهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ.
وَمَكَانُ الْقَيِّمِ بِالأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ([2]) مِنَ الْـخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ، فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ([3]) أَبَداً، وَالْعَرَبُ الْيَومَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلاً، فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالإِسْلاَمِ، عَزِيزُونَ بِالاجْتِمَاعِ! فَكُنْ قُطْباً، وَاسْتَدِرِ الرَّحَا بِالْعَرَبِ، وَأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْـحَرْبِ، فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هذِهِ الأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ([4]) أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ. إِنَّ الأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا: هذا أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْترَحْتُمْ، فَيْكُونُ ذلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ، وَطَمَعِهِمْ فِيكَ.
فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ الْـمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِـمَسِيرِهِمْ مِنْكَ، وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيَما مَضَى بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَالْـمَعُونَةِ!
[1] ـ رواه باختلاف الطبري (ت 310) في تاريخه 3: 211 ـ 212، وابن أعثم الكوفي (ت 314) في الفتوح 1: 291، وابن حبان (ت 354) في الثقات 2: 225، والشيخ المفيد (ت 413) في الإرشاد 1: 209 وقال: «فانظروا أيدكم الله إلى هذا الموقف الذي ينبئ بفضل الرأي، إذ تنازعه اُولو الألباب والعلم وتأمّلوا في التوفيق الذي قرن الله به أميرالمؤمنين (عليه السلام) في الأحوال كلّها وفزع القوم إليه في المعضل من الأمور، وأضيفوا إلى ذلك إلى ما أثبتناه من الفضل في الدين الذي أعجز متقدمي القوم حتى اضطروا في علمه إليه، تجدوه من باب المعجز الذي قدمناه».
واعلم انّه قد استشهد بعض السلفيين بأمثال هذه الكلمات والخطب لدعم نظريتهم في التوافق التام والمحبة الكاملة بين أميرالمؤمنين (عليه السلام) وبين من تقدّمه، ولكن الأمر على خلاف ما توهموه، فانّ التاريخ كلّه يشهد بتظلّم أميرالمؤمنين (عليه السلام) وشكواه ممّن تقدّمه ممّا أدى إلى تخلّفه عن البيعة والإنعزال عن الساحة السياسية والإجتماعية، لكن لمّا رأى (عليه السلام) الخطر الحقيقي على الإسلام، قام نصرة للدين وحفاظاً عليه، فساعد القوم وأخلص لهم النصيحة لا حباً لهم بل حباً للدين وحفاظاً عليه، وبهذا الصدد يقول (عليه السلام): «حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم ... فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأنّ الدين وتنهنه» [نهج البلاغة، الكتاب رقم: 62].
وفي هذا المورد الخاص تدلّ رواية الشيخ المفيد (رحمه الله) على أنّ عمر لما سمع خبر استعداد الفرس للهجوم على المسلمين فزع فزعاً شديداً، واحتار في أمره فاستشار الصحابة، فأشار عليه أميرالمؤمنين(عليه السلام) بالبقاء وعدم الخروج فطمأنه وصبّره وأذهب روعته، وذكر له بانّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وانّهم لم يكونوا يقاتلون فيما مضى بالكثرة، وانّما كانوا يقاتلون بالنصر والمعونة، فلماذا هذا الخوف والفزع؟!
هذا، ومن جهة ثانية كانت هناك أزمة داخلية يعيشها المسلمون، ألا وهم أعداء الإسلام من داخل القطر الإسلامي، فلذا قال له (عليه السلام): «فانّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها» فخروج عمر للحرب مع ما كان يحمله من قلق وفزع، ومع وجود أعداء من داخل القطر الإسلامي يتربصون بالإسلام الدوائر، لم تكن من المصلحة.
هذا بالاضافة إلى أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) كان يخلص النصيحة لكلّ أحد، وموقفه مع عثمان والذب عنه ـ مع ما كان بينهما من تباعد بيّن ـ خير شاهد على ما نقول.
أمّا الأوصاف التي وردت في كلامه (عليه السلام) من قبيل: «ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز...» هي أوصاف عامة للحاكم الذي يدير اُمور البلاد براً كان أو فاجراً، ولا تدل على مدح أو ذم أو أيّ شيء آخر، وهي كما قال (عليه السلام): «لابدّ للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرتِهِ المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي...» [نهج البلاغة، الخطبة رقم: 40]. فهذه وتلك أوصاف للدور السياسي والاجتماعي الذي يقوم به الحاكم أياً من كان، كما مضى نحو هذا الكلام في حق نفسه (عليه السلام) لما طلب منه أصحابه الشخوص للقتال كي يخرجوا معه فقال(عليه السلام): «انّما أنا قطب الرحا، تدور عليّ وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثفالها» [نهج البلاغة، الخطبة: 118] فالمراد بقوله: «أنا قطب الرحى» الأنا العرفي أي الحاكم أياً من كان سواء أكانت له أهلية الحكم والتولّي أم لم تكن.
[2] ـ النظام: الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ.
[3] ـ حذافير الشيء: أعاليه، يقال: أعطاه الدنيا بحذافيرها أي بأسرها.
[4] ـ العور: كل خلل يتخوّف منه في ثغر أو حرب.