[150] ومن خطبة له(عليه السلام) يومئ فيها إلى الملاحم([1])
وَأَخَذُوا يَمِيناً وَشِمَالاً ظَعْنَاً([2]) فِي مَسَالِكِ الْغَيِّ، وَتَرْكاً لِـمَذَاهِبِ الرُّشْدِ، فَلَا تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ، وَلا تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِيءُ بِهِ الْغَدُ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَكَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَمَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِيرِ([3]) غَدٍ!
يَا قَوْمِ، هذَا إِبَّانُ([4]) وُرُودِ كُلِّ مَوْعُودٍ، وَدُنُوٍّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لا تَعْرِفُونَ، أَلاَ وَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاجٍ مُنِيرٍ، وَيَحْذُو فِيهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِينَ، لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً([5])، وَيُعْتِقَ رِقّاً، وَيَصْدَعَ شَعْباً([6])، وَيَشْعَبَ صَدْعاً([7])، فِي سُترَةٍ عَنِ النَّاسِ لا يُبْصِرُ الْقَـائِفُ([8]) أَثَرَهُ وَلَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ . ثُمَّ لَيُشْحَذَنَّ فِيهَـا قَـوْمٌ شَحْـذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ، وَيُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهمْ ، وَيُغْبَقُونَ([9]) كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ([10])!
منها: [في الضلال]
وَطَالَ الأَمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ، وَيَسْتَوْجِبُوا الْغِيَرَ([11])؛ حَتَّى إِذَا اخْلَوْلَقَ([12]) الأَجَلُ، وَاسْترَاحَ قَوْمٌ إِلَى الْفِتَنِ، وَاشْتَالُوا([13]) عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ، لَمْ يَمُنُّوا عَلَى اللهِ بِالصَّبْرِ، وَلَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْـحَقِّ؛ حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلاءِ، حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ، وَدَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ; حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللهُ رَسُولَهُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الأَعْقَابِ ([14])، وَغَالَتْهُمُ([15]) السُّبُلُ، وَاتَّكَلُوا عَلَى الْوَلاَئِجِ([16])، وَوَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ، وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ، وَنَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ([17]) أَسَاسِهِ، فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَأَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ([18])، قَدْ مَارُوا([19]) فِي الْـحَيْرَةِ، وَذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ، عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ، أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ.
[1] ـ وقد رواها الطبري الإمامي (ق 4) في المسترشد: 402 باختلاف، وذلك من قوله(عليه السلام): «والله لقد ارتد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أقوام ـ إلى قوله: ـ في غير موضعه».
[2] ـ ظَعَنَ: سار.
[3] ـ تباشير كل شيء: أوّل ما يبدو منه.
[4] ـ إبّان الشيء: وقته وزمانه.
[5] ـ الرِبق: حبل فيه عدّة عرى تشدّ به البهم.
[6] ـ يصدع: يشق، وشعباً: جمعاً.
[7] ـ يشعب صدعاً: أي يجمع ما تفرّق من كلمة أهل الهدى والإيمان.
[8] ـ القائف: الذي يعرف الآثار.
[9] ـ الغبوق: الشرب بالعشيّ.
[10] ـ الصبوح: الشرب في الصباح.
[11] ـ الغِيَرَ: النعم التي يغيرها بهم من نعم الله تعالى.
[12] ـ اخلولق: تقادم وقرب.
[13] ـ اشتالوا: رفعوا.
[14] ـ يؤيّد كلامه هذا قوله تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ». وقد ورد التصريح بارتداد بعض الصحابة عقيب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، وذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «يرد على الحوض رجال من أصحابي، فيحلؤون عنه فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، انّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» [صحيح البخاري 7: 208] وقوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «أنا فرطكم على الحوض ولانازعنّ أقواماً ثم لأغلبنّ عليهم، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقال: انّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [صحيح مسلم 7: 68].
[15] ـ غالتهم: أهلكتهم.
[16] ـ الوليجة: البطانة يتخذها الإنسان لنفسه.
[17] ـ الرصّ: مصدر رصصت الشيء أرصّه أي ألصقت بعضه ببعض.
[18] ـ الغمرة: الضلال والجهل، والضارب فيها: الداخل المعتقد لها.
[19] ـ مارَ يمور: إذا ذهب وجاء.