[156] ومن كلام له(عليه السلام)
خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم([1])
فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اللهِ([2]) فَلْيَفْعَلْ ، فَإِنْ أَطَعْتُمُوني فَـإِنِّي حَـامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى سَبِيلِ الْـجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ. وَأَمَّا فُلاَنَةُ، فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ، وَضِغْنٌ غَلاَ فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ([3])، وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ، وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الأُولَى، وَالْحِسَابُ عَلَى اللهِ.
منه: [في وصف الإيمان]
سَبِيلٌ أَبْلَجُ([4]) الْـمِنْهَاجِ ، أَنْوَرُ السِّرَاجِ ، فَبِالإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِـحَاتِ، وَبِالصَّالِـحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الإِيمَانِ، وَبِالإِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ، وَبِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْـمَوْتُ، وَبِالْـمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا، وَبِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الآخِرَةُ [وَبِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ الْـجَنَّـةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَتُبْرَزُ الْـجَحِيْمُ لِلْغَاويْنَ]، وَإِنَّ الْـخَلْقَ لا مَقْصَرَ([5]) لَـهُمْ عَنِ الْقِيَامَةِ، مُرْقِلِينَ([6]) فِي مِضْمارِهَا([7]) إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى.
منه: [في حال أهل القبور في القيامة]
قَدْ شَخَصُوا([8]) مِنْ مُسْتَقَرِّ الأَجْدَاثِ([9])، وَصَارُوا إِلى مَصَائِرِ الْغَايَاتِ([10])، لِكُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا، لا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَلا يُنْقَلُونَ عَنْهَا. وَإِنَّ الأَمْرَ بِالْـمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْـمُنكَرِ، لَـخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّهُمَا لا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ، وَلا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ. وَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَإِنَّهُ الْـحَبْلُ الْـمَتِينُ، وَالنُّورُ الْـمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَالرَّيُّ النَّاقِعُ([11])، وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ، وَالنَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ ، لا يَعْوَجُّ فَيُقَامَ، وَلا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ، وَلا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ([12])، وَوُلُوجُ السَّمْعِ([13])، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ.
وقام إليه (عليه السلام) رجل فقال: أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال (عليه السلام):
لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ، قَوْلَهُ: <الم * أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتركُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ> عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لا تَنْزِلُ بِنَا وَرَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بَيْنَ أَظْهُرِنَا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتي أَخْبَرَكَ اللهُ بِهَا؟ فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِي». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ لَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ، وَحِيزَتْ([14]) عَنِّي الشَّهَادَةُ، فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي: «أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ»؟ فَقَالَ لي: «إِنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذَنْ»!. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيسَ هذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَلكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ البُشْرَى وَالشُّكرِ.
وَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهمْ، وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِم عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ، وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ، وَالأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْـخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالسُّحْتَ بِالْـهَدِيَّةِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ».
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَبِأَيِّ الْـمَنَازِلِ أُنْزِلُـهُمْ عِنْدَ ذلِكَ؟ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ، أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ؟ فَقَالَ: «بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ»([15]).
[1] ـ رواه على نحو ماذكره الشريف الرضي، المتقي الهندي (ت975) في كنز العمال16: 186 ح4421 عن يحيى ابن عبدالله بن الحسن عن أبيه. أمّا قوله(عليه السلام): «فبالإيمان يستدل على الصالحات ـ إلى قوله: ـ وبالموت تختم الدنيا» رواه سليم (ق 1) في كتابه: 180 عن أبان بن أبي عياش، والإسكافي (ت 220) في المعيار والموازنة: 260، والثقفي (ت 283) في الغارات 1: 139 قال: «حدثنا محمّد، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا إبراهيم، قال: وحدثنا أبو زكريا بهذا الكلام أكثر من هذا ورواه عن أهل العلم من أصحابه قال: قال عليّ(عليه السلام)» وفيه: بالإسلام يستدل على الصالحات. ورواه أيضاً الكليني (ت 329) في الكافي 2: 49 ح 1 عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد جميعاً، عن الحسن بن محبوب، عن يعقوب السراج، عن جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام)، وبأسانيد مختلفة عن الأصبغ بن نباتة. ورواه ابن شعبة (ق 4) في تحف العقول: 164، والشيخ المفيد (ت 413) في الأمالي: 277 ح 3 وقال: «أخبرني أبو عبيدالله بن عمران المرزباني، قال: حدثني أحمد بن سليمان الطوسي، عن الزبير بن بكار قال: حدثني عبدالله بن وهب، عن السدي، عن عبدخير، عن قبيصة بن جابر الأسدي قال: قام رجل إلى أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) فسأله عن الإيمان» وعنه الشيخ الطوسي (ت 460) في الأمالي: 37 ح 9. وأمّا قول رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لعليّ (عليه السلام) يوم أُحد فرواه بنحو ما رواه الشريف الرضي، المتقي الهندي في كنز العمال ـ كما ذكرنا ـ ورواه مختصراً فرات الكوفي (ت 352) في تفسيره: 615 ح 772 قال: «حدثني عليّ بن محمّد بن إسماعيل الخزاز الهمداني معنعناً عن زيد»، والطبراني (ت 360) في المعجم الكبير 11: 295 وقال: «حدثنا محمّد بن عليّ ابن عبدالله المروزي، ثنا أبو الدرداء عبدالعزيز بن المنيب، حدثني إسحاق بن عبدالله بن جلس، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس»، وذكر ابن أبي الحديد في شرحه 9: 206 انّ هذا الخبر مروي عن رسول الله 9، قد رواه كثير من المحدثين عن عليّ(عليه السلام).
[2] ـ يعتقل نفسه على الله: يحبسها على طاعته.
[3] ـ المرجل: القدر، والقين: الحداد، أو كل من يعمل بالنار.
[4] ـ أبلج: مشرق مضيئ.
[5] ـ لا مقصر: لا معدل.
[6] ـ أرقل: أسرع.
[7] ـ المضمار: ميدان السباق.
[8] ـ شخص: ذهب.
[9] ـ الجدث: القبر.
[10] ـ مصائر: جمع مصير، والغاية: ما ينتهى إليه.
[11] ـ ماء ناقع: ينقع الغُلّة ويقطعها.
[12] ـ أخلقه: ألبسه ثوباً خلقاً أي بالياً، وكثرة الرد: كثرة ترديده على الألسنة بالقراءة.
[13] ـ ولوج السمع: دخول الآذان والمسامع.
[14] ـ حيزت: مُنعت.
[15] ـ علّق ابن أبي الحديد في شرحه 9: 208 على هذا المقطع قائلاً: «وفي قوله: «بل بمنزلة فتنة» تصديق لمذهبنا في أهل البغي، وانّهم لم يدخلوا في الكفر بالكلّية، بل هم فسّاق والفاسق عندنا في منزلة بين المنزلتين، خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر». ويرد عليه: انّ المرتد هو من أنكر ضرورياً من ضروريات الدين بحيث يرجع انكاره إلى انكار الرسالة وتكذيب النبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وهذه الحالة غير مقصودة هنا في الخطبة، بل كلام رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يشير إلى حالة التهاون والتخاذل في أمر الدين نتيجة الانغماس في الملاهي والملذات، ممّا لم يؤدّ إلى الارتداد وانكار الضروريات وجحدها، ولذا قال (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): «يستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء الساهية» ممّا يدلّل على عدم وجود قصد وتعمّد، ولذا أنزلهم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بمنزلة المفتون بهم، وإلاّ لحكم عليهم بالارتداد حالهم حال سائر المرتدين، مضافاً إلى انّ هذا الكلام لا صلة له بحكم أهل البغي من حيث الكفر أو الفسق، بل هو ـ كما قلنا ـ مسوق لشرح حالة المفتون بهم في الدنيا وزخرفها وزينتها، أمّا حكم أهل البغي، فيعرف من أدلّة اُخرى ليس هنا محل ذكرها، ولو لم يكن سوى قوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لعليّ (عليه السلام): «حربك حربي وسلمك سلمي» لكفى في المقام.