[157] ومن خطبة له (عليه السلام) ([1])
[يحثّ الناس على التقوى]
الْـحَمْدُ للهِِ الَّذِي جَعَلَ الْـحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ، وَسَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ، وَدَلِيلاً عَلَى آلاَئِهِ وَعَظَمَتِهِ. عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْـمَاضِينَ، لا يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ، وَلا يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ. آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ، مُتَسَابِقَةٌ أُمُورُهُ([2])، مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلاَمُهُ([3]).
فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ([4])، فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَارْتَبَكَ فِي الْـهَلَكَاتِ، وَمَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ سَيِّءَ أَعْمَالِهِ، فَالْـجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ، وَالنَّارُ غَايَةُ الْـمُفَرِّطِينَ. اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ، لا يَمْنَعُ أَهْلَهُ، وَلا يُحْرِزُ([5]) مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، أَلَا وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ([6]) الْـخَطَايَا، وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصوَى.
عِبَادَ اللهِ، اللهَ اللهَ فِي أَعَزِّ الأَنْفُسِ عَلَيْكُم، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ; فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ سَبِيلَ الْـحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأيَّامِ الْبَقَاءِ. قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ، وَأُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ([7])، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْـمَسِيرِ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ، لا يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ، أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلآخِرَةِ! وَمَا يَصْنَعُ بِالْـمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَحِسَابُهُ!
عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِـمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الْـخَيْرِ مَتْرَكٌ، وَلا فِيَما نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ. عِبَادَ اللهِ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الأَعْمَالُ([8])، وَيَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ، وَتَشِيبُ فِيهِ الأَطْفَالُ. اعْلَمُوا، عِبَادَ اللهِ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وَحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ([9])، وَلا يُكِنُّكُمْ([10]) مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ([11])، وَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ.
يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيـهِ ، وَيَجِيءُ الْغَـدُ لاَحِقاً بِـهِ ، فَكَأَنَّ كُـلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ ، وَمَخَطَّ حُفْرَتِهِ ، فَيَالَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ ، وَمَنْزِلِ وَحْشَـةٍ ، وَمُفْرَدِ غُرْبَةٍ ! وَكَأَنَّ الصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ ، وَالسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ ، وَبَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ الأَبَاطِيلُ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ، وَاسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْـحَقَائِقُ، وَصَدَرَتْ بِكُمُ الأُمُورُ مَصَادِرَهَا ، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ ، وَاعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ([12]) ، وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ.
[1] ـ روى ابن شعبة (ق 4) في تحف العقول: 223 قوله(عليه السلام): «اعلموا عباد الله انّ التقوى ـ إلى قوله: ـ تردك الغاية القصوى»، واستشهد ابن الأثير (ت 606) في النهاية 2: 510 بقوله(عليه السلام): «فكأنّكم بالساعة تحدوكم حدو الزاجر بشوله».
[2] ـ اُمور الدهر: مصائبه.
[3] ـ متظاهرة أعلامه: أي دلالاته على سجيته التي عامل الناس بها قديماً وحديثاً، متظاهرة: يقوى بعضها بعضاً.
[4] ـ الشول: النوق التي جفّ لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية.
[5] ـ يحرز: يحفظ.
[6] ـ الحمة: إبرة العقرب وسمّها، والمراد: سطوة الذنوب.
[7] ـ ظَعَنَ: سار.
[8] ـ تفحص فيه الأعمال: تكشف.
[9] ـ الدجى: الظلمة.
[10] ـ لا يكنّكم: لا يستركم.
[11] ـ الرتج: الباب العظيم.
[12] ـ واعتبروا بالغير: أي بتغيرات الدهر وانقلاباته على أهله.