[182] ومن خطبة له (عليه السلام)
روي عن نوف البكالي قال: خطبنا بهذه الخطبة أميرالمؤمنين عليّ (عليه السلام) بالكوفة وهو قائم على حجارة، نصبها له جَعْدَة بن هُبَيْرة المخزومي، وعليه مِدْرَعَةٌ من صُوف وحمائل سيفه لِيفٌ، وفي رجليه نعلان من لِيف، وكأنّ جبينه ثَفِنَةُ([1]) بعير، فقال:
الْـحَمْدُ للهِ الَّذِي إلَيْهِ مَصَائِرُ الْـخَلْقِ، وَعَوَاقِبُ الأَمْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ، وَنَيِّرِ بُرْهَانِهِ، وَنَوَامِي([2]) فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ، حَمْداً يَكُونُ لِـحَقِّهِ قَضَاءً، وَلِشُكْرِهِ أَدَاءً، وَإلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً، وَلِـحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً.
وَنَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِهِ، مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ، وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ، مُعْترِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ([3])، مُذْعِنٍ لَهُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ. وَنُؤْمِنُ بِه إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً، وَأَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً، وَخَنَعَ([4]) لَهُ مُذْعِناً، وَأَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً، وَعَظَّمَهُ مُمَجِّداً، وَلَاذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً.
لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً، وَلَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَلا زَمَانٌ، ولَمْ يَتَعَاوَرْهُ([5]) زِيَادَةٌ وَلا نُقْصَانٌ، بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلاَمَاتِ التَّدْبِيرِ الْـمُتْقَنِ، وَالْقَضَاءِ الْـمُبْرَمِ.
فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلاَ عَمَدٍ، قَائِمَاتٍ بِلاَ سَنَدٍ، دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ، غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَلا مُبْطِئَاتٍ، وَلَوْلَا إقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَإِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ، لَـمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ، وَلا مَسْكَناً لِـمَلَائِكَتِهِ، وَلا مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ.
جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلاَماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْـحَيْرَانُ فِي مُخْتَلَفِ فِجَاجِ([6]) الأَقْطَارِ، لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِـهْمَامُ سُجُفِ([7]) اللَّيْلِ الْـمُظْلِمِ، وَلا اسْتَطَاعَتْ جَلاَبِيبُ([8])سَوَادِ الْـحَنَادِسِ أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّماوَاتِ مِنْ تَلَأْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ.
فَسُبْحَانَ مَنْ لا يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَقٍ دَاجٍ([9])، وَلا لَيْلٍ سَاجٍ([10])، فِي بِقَاعِ الأَرَضِينَ الْـمُتَطَأْطِئَاتِ، وَلا فِي يَفَاعِ السُّفْعِ([11]) الْـمُتَجَاوِرَاتِ، وَمَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ([12]) فِي أُفُقِ السَّماءِ، وَمَا تَلاَشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الأَنْوَاءِ([13]) وَانْهِطَالُ السَّماءِ([14])! وَيَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَمَقَرَّهَا، وَمَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَمَجَرَّهَا، وَمَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى فِي بَطْنِهَا.
وَالْـحَمْدُ للهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ، أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ، أَوْ جَانٌّ أَوْ إنْسٌ، لا يُدْرَكُ بِوَهْمٍ، وَلا يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ، وَلا يَشْغَلُهُ سَائِلٌ، وَلا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ([15])، وَلا يَنْظُرُ بِعَيْنٍ، وَلا يُحَدُّ بِأَيْنٍ، وَلا يُوصَفُ بِالأَزْوَاجِ([16])، وَلا يُخْلَقُ بِعِلاَجٍ([17])، وَلا يُدْرَكُ بِالْـحَوَاسِّ، وَلا يُقَاسُ بِالنَّاسِ، الَّذِي كَلَّمَ مُوسى تَكْلِيماً، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيْماً، بِلَا جَوَارِحَ وَلا أَدَوَاتٍ، وَلا نُطْقٍ وَلا لَهَوَاتٍ([18]).
بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْـمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ، فَصِفْ جِبْرَئيلَ وَمِيكَائِيلَ وَجُنُودَ الْـمَلاَئِكَةِ الْـمُقَرَّبِينَ، فِي حُجُراتِ([19]) الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ([20])، مُتَوَلِّـهَةً عُقُولُـهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْـخَالِقينَ، وَإنَّمَا يُدرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْـهَيْئَاتِ وَالأَدوَاتِ، وَمَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ، فَلاَ إلهَ إلاَّ هُوَ، أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلاَمٍ، وَأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْـمَعَاشَ; فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً، أَوْ لِدَفْعِ الْـمَوْتِ سَبِيلاً، لَكَانَ ذلِكَ سُلَيْمانُ بنُ دَاوُدَ (عليه السلام)، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ([21])، فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ([22])، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتْهُ قِسِيُّ([23]) الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْـمَوْتِ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً، وَالْـمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً، وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً!
أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ! أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ! أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ، وَأَطْفَأُوا سُنَنَ الْـمُرْسَلِينَ، وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْـجَبَّارِينَ! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْـجُيُوشِ، وَهَزَمُوا الأُلُوفَ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ، وَمَدَّنُوا الْـمَدَائِنَ!
منها:
قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا، وَأَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا([24])، مِنَ الإِقْبَالِ عَلَيْهَا، وَالْـمَعْرِفَةِ بِهَا، وَالتَّفَرُّغِ لَـهَا، فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا، وَحَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا، فَهُو مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الإِسْلَامُ، وَضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ([25])، وَأَلْصَقَ الأَرْضَ بِجِرَانِهِ([26])، بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ، خَلِيفَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ أَنْبِيَائِهِ([27]).
ثم قال(عليه السلام): أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْـمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ بِهَا الأَنْبِيَاءُ أُمَمَهُمْ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الأَوصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا، وَحَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا([28]). للهِ أَنْتُمْ! أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ، وَيُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ!
أَلَا إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلاً، وَأَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً، وَأَزْمَعَ التَّرْحَالَ([29]) عِبَادُ اللهِ الأَخْيَارُ، وَبَاعُوا قَلِيلاً مِنَ الدُّنْيَا لا يَبْقَى، بِكَثِيرٍ مِنَ الآخِرَةِ لاَيَفْنَى. مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ ـ وَهُمْ بِصِفِّينَ ـ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً! يُسِيغُونَ الْغُصَصَ، وَيَشْرَبُونَ الرَّنْقَ([30])! قَدْ ـ وَاللهِ ـ لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ.
أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيْقَ، وَمَضَوْا عَلَى الْـحَقِّ! أَيْنَ عَمَّارٌ! وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ! وَأَيْنَ ذُوالشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْـمَنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ([31]) بِرُؤوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ!
قال: ثمّ ضرب (عليه السلام) بيده إلى لحيته، فأطال البكاء، ثمّ قال: أَوْهِ([32]) عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ، وَأمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ.
ثمّ نادى بأعلى صوته: الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللهِ! أَلاَ وَإِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَوْمِي هذَا، فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللهِ فَلْيَخْرُجْ.
قال نوْفٌ: وعقد للحسين (عليه السلام) في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله، فتراجعت العساكر، فكنّا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من كل مكان!
[1] ـ الثفنة: ما يمسّ الأرض من البعير بعد البروك ويكون فيه غلظ من ملاطمة الأرض.
[2] ـ نوامي: زوائد.
[3] ـ الطول: الفضل.
[4] ـ خنع: خضع وذلّ.
[5] ـ لم يتعاوره: لم يعترضه.
[6] ـ الفجاج: الطريق الواسع بين جبلين.
[7] ـ ادلهمام: ظلمة. وسجف: ستور.
[8] ـ الجلباب: ما يستر البدن من الثياب.
[9] ـ الغسق: أوّل ظلمة الليل، ودجا الليل: إذا ألبس كلّ شيء.
[10] ـ الساجي: الساكن.
[11] ـ اليفاع: الارتفاع، والسفع: سواد مشروب بحمرة.
[12] ـ الجلجلة: صوت الرعد.
[13] ـ عواصف: الر ياح الشديدة، والأنواء: سقوط النجوم.
[14] ـ انهطال السماء: تتابع المطر.
[15] ـ نائل: عطاء.
[16] ـ الأزواج: الأجزاء والأبعاض، أو القرناء والأمثال.
[17] ـ العلاج من المعالجة: أي المزاولة.
[18] ـ اللهوات: جمع لهات، اللحمة المشرفة على الحلق من أقصى الفم.
[19] ـ الحجرات: النواحي.
[20] ـ مرجحنّين: خاشعين.
[21] ـ الزلفة: القرب.
[22] ـ طعمته: كناية عن الرزق.
[23] ـ القسي: القوس.
[24] ـ أدبها: شرائطها وآدابها.
[25] ـ عسيب الذَنَب: منبته من الجلد والعظم.
[26] ـ الجران: مقدم عنق البعير.
[27] ـ كلامه (عليه السلام) هذا يؤيّد ما ذكره أيضاً: «اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة امّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته».
[28] ـ وسقت: جمعت.
[29] ـ أزمع: عزم، والترحال: الارتحال.
[30] ـ الرنق: الكدر.
[31] ـ أُبرد: أُرسل.
[32] ـ أوه: كلمة توجّع.