[221] ومن كلام له (عليه السلام)
قاله عند تلاوته <رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ>:
إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاَءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ([1])، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ([2])، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْـمُعَانَدَةِ، وَمَا بَرِحَ لله ِ ـ عَزَّتْ آلاَؤهُ ـ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ([3])، وَفِي أَزْمَانِ الْفَترَاتِ، عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِى فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الأَسْمَاعِ وَالأَبْصَارِ وَالأفْئِدَةِ، يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللهِ، وَيُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ، بِمَنْزِلَةِ الأدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ([4])، مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ([5]) حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ، وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَشِمَالاً ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ، وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْـهَلَكَةِ، فَكَانَوا كَذلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَأَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ.
وَإِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلاً أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلاً، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْهُ، يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْـحَيَاةِ، وَيَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ في أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ، وَيَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ، فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الآخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا، فَشَاهَدُوا مَاوَرَاءَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الاِقَامَةِ فِيهِ، وَحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا([6])، فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذلِكَ لاَِهْلِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لا يَرَى النَّاسُ، وَيَسْمَعُونَ مَا لا يَسْمَعُونَ.
فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ([7]) الْـمَحْمُودَةِ، وَمَجَالِسِهِمُ الْـمَشْهُودَةِ، وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ، وَفَرَغُوا لِـمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا، أَوْ نُهوُا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فِيهَا، وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَارِهِمْ ظُهُورَهُمْ، فَضَعُفُوا عَنِ الاسْتِقلاَلِ بِهَا، فَنَشَجُوا([8]) نَشِيجاً، وَتَجَاوَبُوا نَحِيباً، يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَاعْتِرَافٍ، لَرَأَيْتَ أَعْلاَمَ هُدًى، وَمَصَابِيحَ دُجًى، قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْـمَلاَئِكَةُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَفُتِحَتْ لَـهُمْ أَبْوَابُ السَّماءِ، وَأُعِدَّتْ لَـهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ، فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ، وَحَمِدَ مَقَامَهُمْ، يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ، رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ، وَأُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ، جَرَحَ طُولُ الأَسَى([9]) قُلُوبَهُمْ، وَطُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ. لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللهِ سُبحانَهُ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ، يَسْأَلُونَ مَنْ لا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْـمَنَادِحُ([10])، وَلا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ. فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الأنْفُسِ لَـهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ.
[1] ـ الوقرة: ثقل السمع.
[2] ـ العشوة: ضعف البصر.
[3] ـ البرهة: قطعة من الزمان.
[4] ـ الفلوات: المفازات والقفار.
[5] ـ أخذ القصد: ركب الإعتدال في سلوكه.
[6] ـ عداتها: جمع عدة وهي الوعد.
[7] ـ مقاوم: جمع مقام، أي مقاماتهم.
[8] ـ نشج الباكي نشيجاً أي غصّ بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.
[9] ـ الأسى: الحزن.
[10] ـ المنادح: جمع مندحة، وهي في الأصل الفضاء المتسع بين الجبلين.