[229] ومن خطبة له (عليه السلام)
[في مقاصد أُخرى]
فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ، وَذَخِيرَةُ مَعَادٍ، وَعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ([1])، وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ، وَيَنْجُو الْـهَارِبُ، وَتُنَالُ الرَّغَائِبُ. فَاعْمَلُوا وَالْعَمَلُ يُرْفَعُ، وَالتَّوْبَةُ تَنْفَعُ، وَالدُّعَاءُ يُسْمَعُ، وَالْـحَالُ هَادِئَةٌ، وَالأقْلَامُ جَارِيَةٌ.
وَبَادِرُوا بِالأعْمَالِ عُمُراً نَاكسِاً([2])، أَوْ مَرَضاً حَابِساً، أَوْ مَوْتاً خَالِساً([3])، فَإِنَّ الْـمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ، وَمُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ، وَمُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ([4])، زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ، وَقِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ، وَوَاترٌ([5]) غَيْرُ مَطْلُوبٍ، قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ([6])، وَتَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ([7])، وَأَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ([8])، وَعَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ، وَتَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ([9])، وَقَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ([10])، فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِى([11]) ظُلَلِهِ([12])، وَاحْتِدَامُ([13]) عِلَلِهِ، وَحَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ([14])، وَغَوَاشِي سَكَرَاتِهِ، وَأَلِيمُ إِرْهَاقِهِ([15])، وَدُجُوُّ أَطْبَاقِهِ([16])، وَجُشُوبَةُ مَذَاقِهِ; فَكَأَنْ قَدْ أَتْاكُمْ بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ([17])، وَفَرَّقَ نَدِيَّكُمْ([18])، وَعَفَّى آثَارَكُمْ، وَعَطَّلَ دِيَارَكُمْ، وَبَعَثَ وُرَّاثَكُمْ يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ، بَيْنَ حَمِيمٍ خَاصٍّ لَمْ يَنْفَعْ، وَقَرِيبٍ مَحْزُونٍ لَمْ يَمْنَعْ، وَآخَرَ شَامِتٍ لَمْ يَجْزَعْ.
فَعَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ، وَالتَّأَهُّبِ وَالاسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ. وَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ الْـمَاضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْـخَالِيَةِ، الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا، وَأصَابُوا غِرَّتَهَا([19])، وَأَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وَأَخْلَقُوا جِدَّتَهَا([20])، أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً([21])، وَأَمْوَالُـهُمْ مِيرَاثاً، لا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَلا يَحْفِلُونَ([22]) مَنْ بَكَاهُمْ، وَلا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ.
فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا [غَدَّارَةٌ] غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ، مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ، مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ، لا يَدُومُ رَخَاؤُهَا، وَلا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا، وَلا يَرْكُدُ([23]) بَلاَؤُهَا.
منها: في صفة الزّهاد
كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا، عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ، وَبَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ، تَقَلَّبُ أَبْدَانُهُمْ بَيْنَ ظَهْرَانيْ أَهْلِ الآخِرَةِ، يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشدُّ إِعْظَاماً لِـمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ.
[1] ـ من كل ملكة: أي كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله.
[2] ـ ناكساً: ناقصاً.
[3] ـ حابساً: أي يمنع من العمل. الخالس: الخاطف.
[4] ـ طياتكم: منازلكم.
[5] ـ القِرن ـ بالكسر ـ : الكفؤ في الشجاعة. الواتر: القاتل.
[6] ـ أعلقتكم حبائله: جعلتكم متعلقين فيها.
[7] ـ تكنفتكم غوائله: أحاطت بكم دواهيه ومصائبه.
[8] ـ أقصدتكم: أصابتكم، والمعابل: السهام.
[9] ـ العدوة: العدوان.
[10] ـ نبوته: مصدر نبا السيف إذا لم يؤثر في الضرب.
[11] ـ دواجي: جمع داجية وهي الظلمة.
[12] ـ الظلل: جمع ظلة وهي السحاب.
[13] ـ الإحتدام: الإضطرام والإشتداد.
[14] ـ الحنادس: الظلمات، والغمرات: الشدائد.
[15] ـ إرهاقه: إعجاله، من أرهقه إذا أعجله.
[16] ـ الدجوّ: الظلام، أطباقه: جمع طبق، والمراد تكاتف الظلمات طبقاً فوق طبق.
[17] ـ النجي: المتناجون.
[18] ـ الندي: مجتمع القوم.
[19] ـ الدِرّة: اللبن. غرّتها: غفلتها.
[20] ـ عدّتها: عددها. أخلقوا جدّتها: جعلوا جديدها خلقاً قديماً.
[21] ـ الأجداث: القبور.
[22] ـ لا يحفلون: لا يبالون.
[23] ـ لا يركد: لا يزول.