الحلقة الثانية: (عقيدتنا في الإمام علي بن أبي طالب (ع))
العقيدة في الفكر الإسلامي هي من الأسس المهمة في البناء الإيماني والمعرفي، وقد بين تفاصيلها المصطفون الأنجبون عليهم أفضل الصلاة والسلام، وتحدثوا عن مناهجها للناس من منابعها الأصيلة وفق رؤية إسلامية محكمة، لأن لها ارتباطاً بالمفاهيم الحقة التي بيّنها الله تعالى لهم عليهم أفضل الصلاة والسلام.
لهذا أعطى الإسلام الولاية الكبرى لأمير المؤمنين (ع) ليحافظ على وحدة الأمة، وبلوغ أهداف الرسالة، وقد تجلى التخطيط الإلهي فيما نصّ عليه رسول الله (ص) في مواقف ومناسبات متعددة تهدف إلى تنصيب الإمام علي بن أبي طالب (ع) ولياً للأمة، وخليفةً لرسول الله (ص).
لهذا شرعية الخلافة إنما تثبت بالنص، والمقصود أن صاحب هذا المقام الإلهي هو من يحتل منصب خلافة الرسول، ولا طريق إلى ذلك إلا بالنص، سواءً أكانت آية قرآنية، أم حديثاً نبوياً متواتراً، ووصل إلينا من التراث الإسلامي بدلالة الكتاب والسنة النبوية أنه كان معلوماً من هو الوصي، والخليفة الشرعي.
ويتضح أكثر لمن يتتبع حركة النبي (ص) وتوجيهاته في أقواله، وأفعاله، وتقاريره، وفي كل مراحل حياة الدعوة أن المقصود هو علي بن أبي طالب (ع) الوصي، والخليفة، والوزير، والظهير، والناصر، والأخ، والمعين، الذي كان يجاهد ليله ونهاره جنباً إلى جنب مع النبي (ص) للعبور بالأمة إلى ساحل النجاة في عملية التغيير الشاملة التي بدأها رسول الله (ص).
وقد أوضح الإمام الرضا (ع) مكانة الإمام في الأمة، ووظيفته الدينية بقوله: (الإمام يحلّ حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبّ عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة)[1].
نعم، تعهّدت الحكمة الإلهية في كل اصطفاء من الأئمة (ع) أن يكون ضمن حدود منهج الحق، وضمن حدود الشروط والمقومات، وأن تنتظم فيه العوامل النظرية والعملية، فيكون كالرسول يتطابق معه في كل حكم يحكمه، وفي كل قضاء يقضي به، ويضطلعان بمهام لا يستطيع غيرهما من الأمة النهوض بها، كأهداف الأنبياء وما جاء في كتب السماء من أوامر، فضلاً عن مضامين الرسالة الإسلامية، حيث يجب أن يوضح مقاصد القرآن الكريم والسنة النبوية، ويبين دلالاتهما الواقعية، ولا يدّخر جهداً في سبيل الدعوة إلى الله تعالى.
ويعد التأريخ الإسلامي خير شاهد في ضوء معطياته المتعددة أن متطلبات الإمامة كلها قد توفرت في الإمام علي (ع)، وهو ما أوجب به العلم من تأكيدات رسول الله (ص) بحقه.
ويشير الإمام الهادي (ع) إلى الإمامة في قضية آصف وصي نبي الله سليمان، وإعداد سليمان لآصف، وهو ما أراد من تعريف الناس بمكانته وعلمه وخلافته من بعده كما في قول الله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب)، فقال عليه السلام: (فهو آصف بن برخيا [وصي سليمان] ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرفه آصف ولكنه أحب أن يعرّف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه ذلك لئلا يُختلف في إمامته وولايته من بعده ولتأكيد الحجة على الخلق)[2].
وهذا ما كان يُذكّر به النبي (ص) في علي (ع) أنه التزم بكل قول، وفعل، وتقرير يصدره النبي (ص) أسلوباً ومنهجاً في بناء الدين والدنيا، فأوصلته هذه المؤهلات إلى القمة وإلى أعلى مراتب الكمال إثر ما عاشه مع النبي (ص) يطيعه في كل أوامره، ولم يرد عليه بكلمة قط، فأخضعه لمثل ذلك التأهيل ليتحمل عبء المرجعية الدينية والفكرية والسياسية.
حتى ذُكر أن علياً (ع) كان يشترط على الصحابة في حادثة شورى عمر (الستّة) أنه إذا تسلّم الخلافة سيسير بسيرة رسول الله (ص)، لا بسيرة الشيخين، فنهجه نهج الإسلام ونهج رسول الله (ص) ونهج العدل والحق والدين، لذا دُفعت عنه الخلافة وحُجبت لهذا السبب بعد مقتل عمر بن الخطاب وأعطيت لعثمان بن عفان في استفتائهم لأنه وافق أن يسير بسيرة الشيخين.
وهذا الثبات من أمير المؤمنين (ع) في عقيدته كان يعلمه النبي (ص)، فمن جملة ما قاله (ص) في حقّه: (لا تصلح النبوة إلا لي، ولا تصلح الوصية إلا لك، فمن جحد وصيتك ]أي خلافتك[ جحد نبوتي، ومن جحد نبوتي أكبّه الله على منخريه في النار)[3].
وكثيرة هي المواقف التي كان الإمام علي (ع) فيها يخاطر بحياته لأجل الإسلام والمسلمين وسلامة النبي (ص) فمثلاً عند الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته قريش على النبي (ص) وعلى المسلمين في شعب أبي طالب، كان الإمام علي (ع) يخرج ليلاً سراً إلى مكة فادياً نفسه ليأتي بالطعام لأنهم اضطروا في بعض الأوقات أن يأكلوا حشائش الأرض.
وعند هجرة رسول الله (ص) من مكة إلى المدينة قال النبي (ص) لعلي (ع): (إن الله تعالى ... أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي، فقال علي (ع): أو تسلم بمبيتي هناك؟ فقال (ص): نعم، فتبسم علي ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً)[4].
ثم ضمّه النبي (ص) إلى صدره وبكى وجداً به، فبكى علي (ع) حزناً لفراق رسول الله (ص) فأنزل الله عزّ وجل في علي (ع)[5] قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد)[6].
ولأن الحادثة كانت مملوءةً بصور التضحية والإيثار أمر الله تعالى جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام) بالهبوط لحراسة علي (ع) بقوله: (اهبطا إلى الأرض كلاكما فاحفظاه من عدوه، فهبط جبرائيل فجلس عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجعل جبرائيل يقول: (بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب والله عز وجل يُباهي بك الملائكة)[7].
وأراد الإمام الصادق (ع) التنبيه إلى حق جده أمير المؤمنين (ع) في مصير هذه الأمة حذر فيه من التعدي على الحق الإلهي حيث قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماماً من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيباً)[8].
وقال (ع): (من أشرك مع إمام إمامته من عند الله من ليست إمامته من الله كان مشركاً بالله)[9].
نعم إن المتشرعة الإمامية لا يطلبون الأدلة العقلية والنقلية فحسب وإنما يلحقون بخليفة رسول الله (ص) شروطاً ومقومات، لا بد أن تتوفر فيه ليكون إماماً وخليفةً للمسلمين (كالنص، والعصمة، والإعجاز، والأفضلية)، وهذه ليست بحاجة إلى الكثير من التدقيق لمعرفة من تتوفر فيه ليعلم من هو الكامل الجامع لهذه المؤهلات وهي:
1ـ (النص): عقيدة الشيعة الإمامية بمنصب الإمامة أنها تثبت بالنص، وقد نصّ رسول الله (ص) على أمير المؤمنين (ع) بعشرات الأدلة من القرآن الكريم، ومن أحاديث السنة النبوية المطهرة في مناسبات متعددة كان يؤكد فيها النبي (ص) على خلافة علي (ع)، وكذلك من خلال البراهين العقلية في مؤلفات الشيعة التي استدلوا بها أن الخليفة هو علي بن أبي طالب (ع) بأمر من الله تعالى صراحةً، وأخرى ما فُهم من خلال أفعال وتقارير النبي (ص).
وبالمقابل لم ينص رسول الله (ص) على أحد لا من الصحابة ولا من غيرهم سوى نصه في علي عليه السلام.
2ـ (العصمة): أهم ما كان يتمتع به الإمام أمير المؤمنين (ع) بعد النص هي صفة العصمة كالأنبياء، لأن أمر تعيينه جاء من قبل الله تعالى بالقرآن الكريم ، ومن رسوله بأحاديثه، بدليل قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[10]، فهي مخصوصة بعترة رسول الله (ص) وأهل بيته بإجماع المسلمين علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم الصلاة السلام) ولا يستطيع منصف أن يدعي غير ذلك.
وستبقى هذه الآية عنواناً للمطهّرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) ما بقي كتاب الله، فإنه تعالى زكاهم، فعلي (ع) مزكى من قبل الله تعالى.
وكما أن العصمة تقوم على أساس نصوص القرآن والسنة، فهي أيضاً قائمة على أساس العقل، فالإمام علي (ع) له من الكمال أن طاعته مطلقة، وله من الفضائل والصفات ما هي جوهرية في ذاته، مما جعلته في مقام رفيع بالعصمة.
أما الآخرون ممن لا يمتلكون العصمة في فكرهم وسلوكياتهم، كالحكام غير الشرعيين، إذ لا يمكنهم مطلقاً بناء عقيدة إسلامية سليمة، لأنهم غير مؤهلين لذلك، فالتساؤل هنا كيف يكون أحدهم هادياً ومرشداً ويوجد إلزام بطاعة الخليفة من قبل الله ورسوله، والحال هم ممن يحتاجون إلى من يوجههم ويأخذ بأيديهم!!!
3ـ (الإعجاز): من مظاهر شروط منصب الإمامة أنه يلزم أن يتمتع الإمام بالمعجزة ليصدق عليه أنه خليفة رسول الله (ص).
كالنبي (ص) ملزم أن يأتي بالمعجزة لإثبات نبوته، كذلك الإمام ملزم أن يأتي بها يخرق العادة والنواميس الطبيعية لإثبات إمامته، وهو ما حصل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فقد ذكر له في التأريخ الإسلامي معاجز كثيرة.
على سبيل المثال لا الحصر أنه (ع) خاطب الثعبان بعد حضوره بين يديه وهو يخطب على منبر مسجد الكوفة، ورفع الصخرة الكبيرة جداً عن فم القليب بعد أن عجز العسكر عن قلعها، ورُدت له الشمس مرتين، مرة أيام النبي (ص) وأخرى أيام خلافته فعادت له وسط النهار ليصلي، وقلعه باب خيبر العظيمة في معركته مع اليهود، فضلاً عن الفكر الذي يحمله، وبلاغته التي من أساليب التربية في إصلاح الأفراد والجماعات، والعلم الذي يعالج به قضايا الأمة، فقد أيقظ بذلك الضمير الإنساني من ركوده وضموره، وحمل لواء الموعظة والإرشاد، واستل الإعجاب والعواطف من أرواح الناس ومن شغاف قلوبهم.
ولم تكن خطاباته المعرفية تلك وأقواله تنظير من أفكار آخرين، بدليل أن الأدب المعاصر ومباحث علم النفس الحديث أقرا أن لديه مقدرة على استشراف المستقبل وقراءة الأحداث فتلك أهلته لمقام أعلى تجري وفق حكمة لإرشاد الناس إليه وإلى صدقه كرمز صادق وإمام عدل، ، وعلى الناس أن يعلموا أنها وضعت لتعمل في قلوبهم، وتنور عقولهم، وتحفظ وحدتهم، وهي من الشواهد العقلية على أفضليته وأحقيته.
4ـ (الأفضلية): لا ريب أن علياً (ع) من النجباء المطهرين، وأنه من أشرف الكائنات، وأفضليته بعد رسول الله (ص) في صفات الكمال، فهو الأتقى، والأعبد، والأزهد، والأعلم، والأشجع، والأكمل، والأحكم، والأبلغ، والأعرف، فاستطاع بشخصيته أن يحدث انقلاباً في موازين أفكار المجتمعات، إذ منحته التدابير الإلهية مميزات لا تعطى إلا للأنبياء والمرسلين.
فكان منذ ولادته وحتى رحيله عن الدنيا أعجوبة في شخصيته التي تتناسب مع فضائله وخصائصه الذاتية وصفاته التكوينية والإدراكية.
فأفضليته فاقت كل العناوين السامية التي تعشقها الإنسانية التي هي موضع حظوة وثناء عند الناس، فتكلمت ونابت عن وصف هذا العملاق بروحه العالية، ونفسه الشامخة، وجاءت الأدلة والأصول التي هي منبع لكل محمدة، ومصدر لكل فضيلة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة في أقوال وأفعال وتقارير رسول الله (ص)، فكشف عن مزايا الفضل والمعروف كله.
ومن فضائله الخالدة ما رواه ابن عباس إذ قال: إنه قد نزلت في علي (ع) ثلاثمائة آية من كتاب الله عزّ وجل[11].
وعن الحسكاني قوله: (ما نزل في أحد من كتاب الله تعالى ما نزل في علي)[12]، وقيل ما نزلت الآية: (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعلي أميرها وشريفها[13].
والسنة النبوية هي خير من عرّفته للأمة، وقدّمته بسموه الروحي والفكري بحوادث كانت فضائله فيها عنواناً خلدها التأريخ، وقالت إن علياً (ع) لا يعرفه إلا الله ورسوله، وكأنه (ص) يقول: (إن الخلافة لا تستقيم بغير علي (ع))، وأحاديث شريفة مستفيضة قالها رسول الله (ص) في حق من له المجد الحقيقي، فأراد من الأمة الالتفاف حوله، والالتفات إليه، إذ لم يكن في البشرية مثله بعد النبي (ص).