الحلقة الثالثة: (أفضلية الإمام علي (ع))
ما كانت النساء لتلد بعد رسول الله (ص) مثل الإمام علي (ع) في فضائله ومحاسنه ومناقبه، فكان ندرةً في معادن الرجال من يوم خلق الله تعالى آدم (ع).
وما كان ليغفله القرآن الكريم، فقد زكّاه وطهّره وأثنى عليه صراحة في آيات متعددة كالمودة، والولاية، والتطهير، والمباهلة، والنجم، والنجوى، والمنزلة، والتبليغ، وكمال الدين وإتمام النعمة، وأنذر عشيرتك، والإنفاق، وإلى مئات الآيات التي شهدت له بالتقدم على كل الأمة باستثناء النبي (ص)، الذي قال (ص) فيه: (لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى للمسيح عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم قولاً لا تمر بملأ إلا أخذوا التراب من تحت رجليك ومن فضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك، ترثني وأرثك، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)[1].
وقد قال (ص): (إن الله تعالى جعل لأخي علي فضائل لا تحصى كثرة، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقراً بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر)[2].
وقال (ص): (لو أن الغياض أقلام، والبحار مداد، والجنّ حساب، والإنس كتّاب، لما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب)[3].
وأحاديث نبوية شريفة مستفيضة قالها رسول الله (ص) في حق علي بن أبي طالب (ع)، كقوله (ص): (ذكر عليّ عبادة)[4]، و(النظر إلى وجه علي عبادة)[5]، و(إن طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار عليّ)[6]، و(حبُّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيئة)[7]، و(أنا وعلي أبوا هذه الأُمّة)[8]، و(أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبيّ بعدي)[9]، و(علي مع القرآن والقرآن مع علي)[10]، و(علي مع الحق والحق معه)[11]، و(يا علي إنما أنت بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي)[12]، و(أقضاكم علي بعدي)[13]، و (النظر إلى عليّ عبادة)[14]، و(عليّ خير البرية)[15]، و(يا علي حبك تقوى وإيمان، وبغضك كفر ونفاق)[16]، و(لا يحبك منافق، ولا يبغضك مؤمن)[17].
وهو نفس النبي (ص) وصهره وحجة الله وصاحب الصراط، والحوض، ولواء الحمد، واسمه مكتوب على باب الجنة، وفارس الإسلام إذ لم يتخلف عن النبي (ص) مشاركاً معه في جميع غزواته.
ووصفه النبي (ص) بأبلغ الأوصاف حيث قال (ص): (يا عباد الله من أراد أن ينظر إلى آدم في جلالته، وإلى شيث في حكمته، وإلى إدريس في نباهته ومهابته، وإلى نوح في شكره لربه وعبادته، وإلى إبراهيم في وفائه وخلته، وإلى موسى في بغض كل عدو لله ومنابذته، وإلى عيسى في حب كل مؤمن وحسن معاشرته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب هذا)[18].
وجاء أمر الله تبارك وتعالى إلى رسول الله (ص) أن أغلق أبواب دور الصحابة التي هي إلى المسجد فأمر بإغلاقها إلا باب دار علي (ع)، وعندما اعترضوا عليه قال (ص) ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها بل الله سدها[19].
وفي فتح مكة صعد علي (ع) على منكب النبي (ص) يكسّر الأصنام ويلقيها من فوق الكعبة، وحين بعثه رسول الله (ص) إلى اليمن قال: (من آذى علياً فقد آذاني)[20].
وفي حادثة مؤاخاة النبي (ص) بين المهاجرين والأنصار وعندما لم يبقَ أحد إلا علياً (ع) جاءه وعيناه تدمعان وقال للنبي (ص): (يا رسول الله آخيت بين الناس وتركتني؟ قال (ص): ولمن تراني تركتك؟ إنما تركتك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك، فإن ذكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسول الله ، لا يدّعيها بعدك إلا كذاب)[21].
ولم يفرد النبي (ص) لأي صحابي أخوة إلا لعلي (ع)، إذ قال (ص) له: (أنت أخي في الدنيا والآخرة)[22]، وهذه دلالة ليقوم بينهما مصير واحد، وعطاء مشترك، نشئا وتربيّا سوياً حتى التحمت نفسيهما، وتطابقت قدراتهما، فملك الإمام (ع)، ما كان يملكه النبي (ص) من العلم والمعرفة، والحكمة، والأخلاق، والإدارة، والشجاعة، والسياسة، والرعاية، وغيرها من تصاريف شؤون الدين والدنيا.
وحين قال (ص): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[23]، كان الإمام (ع) الإصلاحي الأول فيها إذ كان (ص) يقول: (لا يبلّغ عنّي إلا عليّ) [24]، فمثالية علي (ع) مثالية رسول الله (ص) حتى وصل اقتباسه منه أنه يرى الواقع مكشوفاً كما يراه النبي (ص)، وهذا الإعداد له سرّ يؤهله لخلافة الأمة، وأنه أب للمؤمنين، وأخ للفقراء والمساكين.
فقد روي أنه عليه السلام وفد عيه رجل مع ابنه، فرحب بهما وأجلسهما في صدر المجلس، ثم أمر لهما بالطعام، وبعد الفراغ منه بادر فأخذ الإبريق لغسل يد الأب ففزع الرجل وقال: كيف يراني الله وأنت تصب الماء على يدي؟
فأجاب الإمام (ع) برفق ولطف: (إن الله يراني أخاك الذي لا يتميز منك، ولا يتفضل عنك، ويزيدني بذلك منزلة في الجنة)[25].
ومن كرامة رسول الله (ص) لعلي (ع) قال له: (يا علي إن الله أكرمك كرامة لم يكرم بها أحداً من خلقه، زوجك الزهراء من فوق عرشه، وأكرم محبيك بدخول الجنة بغير حساب، وأعدّ لشيعتك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ووهب لك حب المساكين في الأرض، فرضيت بهم شيعة، ورضوا بك إماماً، فطوبى لمن أحبك، وويل لمن أبغضك)[26].
وهذا هو المجد الحقيقي، إذ ليس اعتباطاً ما قال بحقه رسول الله (ص)، فقد أراد من الأمة الالتفاف حول من أشرف هو (ص) على تربيته ورعايته، حتى تشكّلت له من صفاته بالخلق العظيم والرؤيا الثاقبة ورجاحة العقل والتخطيط ما لا يستطيع أحد وصفه.
وقال الإمام علي (ع): (عهد إلي رسول الله يوم توفى، وقد أسندته إلى صدري، فقال رسول الله: يا علي، أرأيت قول الله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)[27]، أتدري من هم؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنهم شيعتك، وأنصارك، وموعدي وموعدهم الحوض يوم القيامة، إذا جثت الأمم على ركبها، وبدأ الله في عرض خلقه، ودعا الناس إلى ما لا بد لهم، فيدعوك، وشيعتك، فتجيئوني غراً محجلين شباعاً مرويين)[28].
إذن سر فضائل الإمام علي (ع) هو الارتباط غير المحدود بالنبي (ص) ليجعل مفزع الناس إليه، بوصفه إمام العقل والوجدان قبل أن يكون إمام النص إزاء هذه الكثرة من التفرد في الفضائل.
ثم إنه لا من القرابة ولا من الصحابة اقترب بمثل ما اقترب هو من النبي (ص)، وكان وسيبقى وسيلة إلى الله تعالى كالرسول (ص)، وهذا مبين في قول إخوة يوسف في قوله تعالى: (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين)[29]، ولم يقل نبي الله يعقوب (ع) أنتم استغفروا بل قال: (سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم)[30]، وكذلك في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله)[31].
وأراد هو (ع) من الأمة اكتشاف هذا الحق الذي فيه لما له من عطاء ضخم تستفيد منه الأجيال كمدرسة متعددة الأغراض.
فقد قيل مثلاً في زهده وهي صفة غالبة على طبعه، فكانت عنواناً لم ترَ البشرية مثله قط إلا عند الأنبياء (ع)، فقد قال (ع): (يا دنيا يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت، أم إلي تشوقت: لا حان حينك هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد)[32].
ومن عدالة تقسيمه الأموال ومحاسبته لولاته قوله (ع): (والله لو وجدته قد تُزوِّج به النساء، ومُلك به الإماء، لرددته، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق)[33].
وفي عبادته وتقواه فقد روى المؤرخون صوراً مذهله منها ما كان في صفين إذ كان يقيم الصلاة وسط المعركة وهو منشغل ومتوجه إلى الله تعالى بقلبه وروحه وجسده.
ومن تعظيمه الخالق والثناء عليه نراه عملاقاً في التفوق الروحي والملكوتي، كونه يعرف الكمال ويعرف ما يوصل إليه، ويعرف كل مزايا الظواهر والبواطن، وهو الأعظم في المسلمين إيماناً بالله تعالى، ولأكثرهم معرفة به، وهو القائل (ع): (لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً)[34].
ومن كثرة الحفاوة الإلهية بهذه الشخصية العظيمة فقد تدخلت يد القدرة في ولادته وسط الكعبة المشرفة، وقُبض شهيداً في محراب مسجد الكوفة، وأنه لم يسجد لصنم قط، ولم يشرك بالله طرفة عين أبداً، ولم يعاقر محرماً، وأول من آمن بالرسول (ص)، وأول من صلى معه، وعند نزول الوحي كان هو (ع) إلى جنبه، ففضائله لا تعد ولا تحصى.
وعوض أن يكون من المسلمين عرفان لما قدمه هذا الإنسان لهم وللإسلام، عاملوه بجفاء، وعاملوا أولاده بقساوة، ولم يحفظوا له حرمة تتناسب مع حجم عطائه، بل هذا العطاء أخذ الاختلاف فيه بُعداً، إذ يندر من الرجال أن يمثل فيه الافتراق كما افترق به الناس، قسم عبدوه لقداسته، رفعاً له عن الطبيعة الإنسانية، وقسم أبغضوه وعادوه حسداً للمستوى الرفيع والحق الإلهي الذي يمتلكه، وهذه ضروب من الظلم عانى منها الإمام علي (ع) كثيراً طوال مسيرة حياته.
وفي وظيفته أيام حكمه كان هو (ع) القرآن الناطق فقد أعاد إلى الأذهان عهد رسول الله (ص)، كيف عقد العزم على إقامة حدود الحق وإزهاق الباطل، إذ لم يثنِه شيء فقد قال (ع): (والله لأسلمنّ ما سلمتْ أمورُ المسلمين)[35]، وقال (ع): (هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناًً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ ... أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها)[36].
وقد نفر بعض المسلمين منه، لأنه تناول نهج الحق بكل أبعاده توطيداً لحكم القرآن لا لحكم الذات والأنانية والتعالي، بل كان كل همه الاستقامة ورضا الله تعالى.
ولم يجبر أحداً على بيعته، ولم ينقص من حقوق معارضيه من بيت المال، ولم يميز نفسه وعشيرته بعطاء، ولم يشتكِ المسلمون من ظلم في عهده، بل كان هو الذي يشتكي ظلمهم له، وهو على رأس ثلة لا تتبنى عملياً أفكاره.
فمثلاً في سياسته مع عبد الله بن عمر فقد أبى مبايعته، وطلب الإذن في السفر عن البلاد، ولما طالبوه بكفيل أبى، فقال علي (ع): "أنا أكفله" فالتأريخ لم يسجل أن حاكماً كفل رجلاً يريد الخروج عن طاعته وحكمه.
وعبد الله بن الزبير كان يشتم الإمام (ع) علناً، ومروان بن الحكم كان أعدى الناس وأشدهم بغضاً له، وعندما ظفر بهما في حرب الجمل عفا عنهما[37]، فهذه دلائل الأخلاق الإسلامية إذ ليس فيه من القيم الماكرة، والأخلاق المزيفة.
وفي حرب صفين عندما ملك جيش معاوية جانب النهر، منع الإمام علياً (ع) وجيشه من أن يردوا الماء وكادوا يموتون عطشاً، وعندما انقلبت موازين المعركة وملك أمير المؤمنين (ع) الماء أمر أصحابه بأن يفسحوا لهم عن بعض ضفة النهر، فهذه سياسة الحاكم الصالح، والعبد الناصح لأنه لا يريد أن يتعرض لغضب الله تبارك وتعالى.
وفي عالمنا المعاصر تحدثت وسائل الإعلام أن الأمم المتحدة أخرجت وثيقة أثبتت فيها أن الإمام علياً (ع) أعدل حاكم على وجه الأرض.
وقال الشعبي: (كان علي بن أبي طالب في هذه الأمة مثل المسيح بن مريم في بني إسرائيل)[38]، وقال شبلي شميل: (الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديماً ولا حديثاً)[39].
وقيل إنه اتخذ لنفسه خطاً ذهب به مذهب فلاسفة الإغريق أمثال: سقراط، وافلاطون، وأرسطو طاليس.
وقد ألف جورج جرداق الأديب المسيحي في عدل علي (ع) كتاباً أسماه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية).
وعمالقة البيان من العرب عبّروا عن انبهارهم بعلمه، وفصاحته، وبلاغته وقالوا: هو أفصح من نطق من الأولين والآخرين إلا كلام الله عزّ وجل وكلام رسوله (ص).
ووصف الراوندي كلامه (ع) وقال: هو (دون كلام اللَّه ورسوله وفوق كلام البشر)[40]، وابن أبي الحديد قال عنه (ع): (أنسى الناس ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده)[41].