خصائصه الأخلاقية:
1- جوده وسخاؤه:
يقول ابن أبي الحديد: وأمّا السخاء والجود فحاله فيه ظاهرة، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وفيه أنزل تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً)، وروى المفسرون أنّه لم يكن يملك إلاّ أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانيةً، فأنزل فيه: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً). وروى عنه أنّه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة، حتى مجلت - أي: ثخن جلده وتعجز وظهر فيه ما يشبه البثر - يده، ويتصدق بالأجرة، ويشد على بطنه حجراً. وما قال: «لا» لسائل قط.
وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لـمحفن بن أبي محفن الضبي لمّا قال له: جئتك من عند أبخل الناس، فقال: «ويحك! كيف تقول إنّه أبخل الناس، لو ملك بيتاً من تبر (الذهب) وبيتاً من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه»[1].
2- حلمه وصفحه:
وصفه ذلك ابن أبي الحديد قائلاً: كان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيء، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل، حيث ظفر بـمروان بن الحكم - وكان أعدى الناس له، وأشدهم بغضاً - فصفح عنه.
شذرات من حلمه (عليه السلام):
وهذه لمحات من بوادر حلمه تنمّ عن نفسه العظيمة التي خلقها الله لتكون مشكاة نور لعباده تهديهم للتي هي أقوم، وهي كما يلي:
١- دعا الإمام (عليه السلام) غلاماً له فلم يجبه، ثمّ دعاه مرّة ثانية وثالثة فلم يجبه، فقام إليه وقال له: (ما حملك على ترك إجابتي؟)، فردّ عليه الغلام: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك.. فامتلأ قلب الإمام سروراً، وقال (عليه السلام): (الحمد لله الّذي جعلني ممّن يأمنه خلقه، امض فأنت حرّ لوجه الله تعالى)[2].
٢- قَصَده أبو هريرة، وكان معروفاً بانحرافه عنه، ومتجاهراً ببغضه، فسأله حاجة فقضاها له، فعاتبه بعض أصحابه على ذلك فقال (عليه السلام): (إنّي لأستحي أن يغلب جهله حلمي، وذنبه عفوي، ومسألته جودي)[3].
3- وكان من عظيم حلمه أنّه ظفر بعائشة بعد فشلها في حرب الجمل، ومعها مروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وغيرهما من الحاقدين عليه، الذين أشعلوا نار الحرب، وأعلنوا التمرّد والعصيان المسلّح على حكومته، فعفا عنهم جميعاً، وسرّح عائشة سراحاً جميلاً، وجهّزها جهازاً حسناً، فبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمَّمَهنّ بالعمائم، وقلّدهنّ بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يُذكَر به وتأففت وقالت: (هتك ستري برجاله وجنده الذين وكّلهم بي)، فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها: (إنما نحن نسوة)[4].
وهكذا كانت سيرته الصفح والإحسان ليقلع نزعات الحقد والشرّ من نفوسهم.
4- وحاربه أهل البصرة وضربُوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: (ألاَ لا يُتبَع مُولٍّ، ولا يُجهزُ على جريح، ولا يُقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن) ، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبى ألا الصفح والعفو وسار بذلك على سنّةَ رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد والإساءة لم تُنسَ.
5- وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة- خطبةً أساء فيها إلى الإمام كثيراً وتكلّم بأقبح الألفاظ - وكان علي عليه السلام يقول: ما زال الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتى شبّ عبد الله - فظفر به الإمام يوم الجمل، فأخذه أسيراً، فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرينك، لم يزده على ذلك. وظفر بـسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة، وكان له عدواً، فأعرض عنه، ولم يقل له شيئاً.
6- ولمّا مَلَكَ عسكر معاوية عليه الماء، وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً، سألهم علي (عليه السلام) وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا والله، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان، فلمّا رأى (عليه السلام) أنّه الموت لا محالة تقدم بأصحابه، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، وملكوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلاة، لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين، كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي فلا حاجه لك إلى الحرب، فقال: لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك[5].
3- البشر وطلاقة الوجه:
وأما سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيا، والتبسم: فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه. قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه[6].
4- شجاعته:
يقول ابن أبي الحديد في وصف شجاعته: فإنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فر قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلاّ قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي الحديث «كانت ضرباته وتراً»، ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم! أتأمرني بمبارزه أبي الحسن وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي[7]!
وقال ابن أبي الحديد أيضاً: وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأمّا قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر. فكانت العرب تفتخر بذلك لتحوز لنفسها الفخر والعزة مثلما افتخر عبد الله بن الزبير حينما انتبه يوما معاوية، فرأى عبد الله بن الزبير جالساً تحت رجليه على سريره، فقعد، فقال له عبد الله يداعبه: يا أمير المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك لفعلت، فقال -معاوية وهو لا يخفي تهكمه-: لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر، قال -عبد الله يباهي ويفتخر-: وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب عليه السلام! قال -معاوية وكأنما أدلع لسان سخريته-: لا جرم إنّه قتلك وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة، يطلب من يقتله بها[8].
5- عبادته:
وعن عبادته يقول المعتزلي في شرحه للنهج: كان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً، ومنه تعلم الناس صلاة الليل، وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير، فيصلي عليه ورده، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته! وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده.
وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزته والاستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلب خرجت، وعلى أيّ لسان جرت[9]!
6- الزهد في الدنيا:
من ذاتيات إمام المتّقين، ومن أبرز عناصره الزهد التامّ في الدنيا، والرفض الكامل لجميع مباهجها وزينتها فكان أزهد الناس، وقد تحدّث الإمام (عليه السلام) عن زهده وإعراضه عن الدنيا بقوله (عليه السلام): (فو الله ما كنزت من دنياكم تِبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وَفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً، ولا حُزت من أرضها شِبراً، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة)[10].
لقد زهد الإمام (عليه السلام) في الدنيا في جميع فترات حياته خصوصاً لمّا تولّى السلطة العامّة للمسلمين، فقد تجرّد تجرّداً تامّاً من جميع رغباتها وعاش عيشة البؤساء والفقراء، فلم يبنِ له داراً، ولم يلبس من أطايب الثياب وإنّما كان يلبس لباس الفقراء، ويأكل أكلهم، مواساةً لهم وهكذا انصرف عن الدنيا، وملاذّها ومنافعها، فعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنه قال: (ولقد ولي علي(عليه السلام) خمس سنين وما وضع آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع قطيعاً، ولا أورث بيضاء، ولا حمراء)[10].
ومن أمثلة زهده ما رواه صالح بن الأسود قال: رأيت عليّاً قد ركب حماراً وأدلى رجليه إلى موضع واحد، وهو يقول: (أنا الّذي أهنت الدّنيا)[12]، أجل والله يا رائد العدل لقد أهنت الدنيا، واحتقرت جميع مباهجها وزينتها، فقد أتتك الدنيا وتقلّدت أسمى مركز فيها، فلم تحفل بها، ولم تعر لسلطتها أي بال، فسلام الله عليك يا إمام المتّقين.
صور مذهلة من زهده (عليه السلام):
وذكر المؤرّخون والرواة صوراً رائعة ومذهلة من زهد الإمام (عليه السلام) كان منها ما يلي:
١ ـ لباسه (عليه السلام):
لم يعتن الإمام (عليه السلام) بلباسه، وإنّما كان يلبس أخشن الثياب، وليس عنده من الثياب غير الثوب الذي عليه... كل ذلك إعراضاً منه عن زهرة الحياة الدنيا وزهده بها ومواساة منه للفقراء ... وهذه بعض البوادر التي حكيت عنه:
أ ـ منها: انه خرج إلى الناس وعليه إزار مرقوع فعوتب في لبسه فقال (عليه السلام): (يخشع القلب بلبسه ويقتدي به المؤمن إذا رأه عليّ)[13].
ب ـ روى أبو إسحاق السبيعي، قال: (كنت على عنق أبي وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يخطب، وهو يتروّح بكمّه، فقلت: يا أبه، أمير المؤمنين يجد الحرّ؟ فقال: لا يجد حرّاً ولا برداً، ولكنّه غسل قميصه وهو رطب، ولا له غيره فهو يتروّح به)[14].
ج ـ روى عليّ بن الأقمر قال: رأيت عليّاً وهو يبيع سيفاً له في السوق ويقول: (من يشتري منّي هذا السّيف، فو الّذي فلق الحبّة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته)[15].
هذه بعض البوادر من زهده في لباسه وكم نحن اليوم بحاجة إلى الاقتداء بسيرته ونبذ مظاهر الإسراف المتفشية في مجتمعاتنا.
٢ ـ طعامه (عليه السلام):
وامتنع الإمام (عليه السلام) من تناول ألوان الأطعمة، واقتصر على ما يسدّ الرمق من الأطعمة البسيطة كالخبز والملح، وربّما تعدّاه إلى اللبن أو الخلّ، وكان في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) (يربط الحجر على بطنه من الجوع)، وكان قليل التناول للحم، وقد قال (عليه السلام): (لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان)[16]، وكان (عليه السلام) يقول: (من أدخله بطنه النار فأبعده الله)[17].
ويروي لنا سويد بن غفلة صورة من زهده (عليه السلام) حيث يقول: دخلت على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) القصر فوجدته جالساً بين يديه صحفة فيها لبن حازر، أجد ريحه من شدّة حموضته وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسّر بيده أحياناً فإذا غلبه كسّره بركبته فطرحه فيه، فقال (عليه السلام): (ادن فأصب من طعامنا هذا)، فقلت: إنّي صائم فقال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: (من منعه الصوم عن طعام يشتهيه كان حقّاً على الله أن يطعمه من طعام الجنّة ويسقيه من شرابها)، قال: فقلت لجاريته وهي قائمة بقريب منه: ويحكِ يا فضّة ألا تتّقين الله في هذا الشيخ ألا تنخلون له طعاماً ممّا أرى فيه من النخالة؟
فقالت: لقد تقدّم إلينا أن لا ننخل له طعاماً، قال (عليه السلام): (ما قلت لها؟ فأخبرته، فقال: (بأبي أنت وأمّي من لم ينخل له طعام ولم يشبع من خبز البرّ ثلاثة أيّام حتّى قبضه الله عزّ وجل، يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله)).
ومن المؤكّد أنّ الإمام (عليه السلام) لم ينل من أطائب الطعام حتى وافاه الأجل المحتوم، فقد أفطر في آخر يوم من حياته في شهر رمضان على خبز وجريش ملح، وأمر برفع اللبن الذي قدّمته له بنته الزكية أمّ كلثوم، وهو في نفس الوقت كان يدعو اليتامى فيطعمهم العسل حتى قال بعض أصحابه: (وددت أنّي كنت يتيماً)[18].
وهو الذي طلّق الدنيا، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلاً من الشام، فكان يفرّقها[19].
أما سائر خصائصه (عليه السلام):
1- إنه (عليه السلام) صهر النبي (صلى الله عليه وآله):
وهو(عليه السلام) صِهرُ أشرف الأنبياء(عليهم السلام) وخاتمهم محمّد المصطفى(صلى الله عليه وآله)، حيث زوّجه الله تعالى في السماء من سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول (عليه السلام)، في حديث خباب بن الأرت: إن الله تعالى أوحى إلى جبرئيل: زوج النور من النور، وكان الولي الله، والخطيب جبرئيل، والمنادي ميكائيل، والداعي إسرافيل، والناثر عزرائيل، والشهود ملائكة السماوات والأرضين، ثم أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما عليك فنثرت الدر الأبيض والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر واللؤلؤ الرطب، فبادرن الحور العين يلتقطن ويهدين بعضهن إلى بعض[20].
2- سُدت أبواب المسجد إلا بابه (عليه السلام):
ومن مختصّاته (عليه السلام) أنّه (عليه السلام): سُدّت الأبواب من مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلاّ بابه. خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال (صلى الله عليه وآله): (أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيه قائلكم، والله ما سددت شيئا، ولا فتحته، وإنما أمرت بشيء فاتبعته)[21].
3- النظر إليه(عليه السلام) عبادة:
عن همام بن منبه، عن حجر، قال: قَدِمْتُ مكة وبها أبو ذر جندب بن جنادة، وقَدِمَ في ذلك العام عمر بن الخطاب حاجّا، ومعه طائفة من المهاجرين والأنصار فيهم علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فبينا أنا في المسجد الحرام مع أبي ذر جالس إذ مرّ بنا علي(عليه السلام) ووقف يصلي بإزائنا، فرماه أبو ذر ببصره، فقلت: يرحمك الله يا أبا ذر، إنك لتنظر إلى علي فما تقلع عنه ؟ قال: إني أفعل ذلك وقد سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: (النظر إلى عليّ عبادة ...)[22].
4- حبه (عليه السلام) علامة الإيمان:
حبّه سلام الله عليه علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق، وما كان يُعرف المنافق في إيّام رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ ببغضه علياً (عليه السلام)، ففي الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله): (يا علي حبك تقوى وايمان وبغضك كفر ونفاق..)[23]، وعن أم سلمة قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام): (لا يحبك منافق ولا يبغضك مؤمن..)[24].
5- نكران الذات:
لقد آثر أمير المؤمنين(عليه السلام) الآخرين بالطيبات واللذائذ فتنكّر لذاته وقدّم غيره على نفسه، وقد وصف الإمام الباقر(عليه السلام) هذه الخصلة عند أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث يقول: (كان علي بن أبي طالب(عليه السلام) ليطعم الناس خبز البر واللحم، وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير، والزيت..) .
وينقل لنا التاريخ نماذج كثيرة في هذا الشأن منها:
1- قال(عليه السلام): (وإنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق ، ولو شئت لاهتديت الطّريق، إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشّبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش!) .
2- أتى الإمام (عليه السلام) سوق البزّازين فإذا هو برجل وسيم فقال (عليه السلام): (يا هذا عندك ثوبان بخمسة دراهم) ؟ فوثب الرجل فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فلما عرفه مضى عنه وتركه، فوقف على غلام فقال له: يا غلام عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ قال: نعم عندي ثوبان، أحدهما أخير من الآخر، واحد بثلاثة والآخر بدرهمين، ... فقال (عليه السلام): (يا قنبر خذ الذي بثلاثة)، قال: أنت أولى به يا أمير المؤمنين، تصعد المنبر وتخطب الناس، فقال (عليه السلام): (يا قنبر أنت شاب ولك شِرَّة الشباب، وأنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك ...)[25].
3- حرصه (عليه السلام) على أموال الناس:
لقد كان (عليه السلام) حريصاً على أموال المسلمين دقيقاً في صرفها ولم يستأثر منها بشيء لنفسه ويذكر المؤرخون حوادث رائعة في هذا المجال منها:
1 ـ روى هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على عليّ بن ابي طالب (عليه السلام) بالخورنق، وهو يرعد تحت سمل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يتنعم، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟
فقال (عليه السلام): (والله! ما أرزؤكم من مالكم شيئاً، وإنّها لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي: أو قال: من المدينة).
2 ـ وقال الإمام علي(عليه السلام): (دخلت بلادكم بأسمالي هذه، ورحلي وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنني من الخائنين)[26].
3ـ ذكر الرواة أنّ الإمام في أيام خلافته لم يكن عنده قيمة ثلاثة دراهم ليشتري بها إزارا أو ما يحتاج إليه، ثمّ يدخل بيت المال فيقسّم كلّ ما فيه على الناس، ثمّ يصلّي فيه، ويقول (عليه السلام): (الحمد لله الّذي أخرجني منه كما دخلته)[27].
6- مقابلة الإساءة بالإحسان:
ومن عظيم حلمه وصفحه(عليه السلام) أنّ معاوية لمّا زحف لحرب الإمام واستولى على الماء اعتبر ذلك أوّل الظفر، فلمّا جاء الإمام مع جيشه وجد حوض الفرات قد احتلّته جيوش معاوية، فطلب منهم أن يسمحوا لجيشه بالتزوّد من الماء، فقالوا له: لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأً كما مات ابن عفّان، فلمّا رأى ذلك أمر جيشه باحتلال الفرات، فاحتلّته قوّاته وملكوا الماء، وسار أصحاب معاوية في البيداء لا ماء لهم، فقال أصحاب الإمام له: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة واحدة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي، فلا حاجة لك في الحرب، فقال(عليه السلام): (لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، أفسحوا لهم عن الشّريعة ففي حدّ السّيف ما يغني عن ذلك)[28].
7- تواضعه (عليه السلام):
من أخلاق الإمام (عليه السلام) التواضع، ولكن لا للأغنياء والمتكبّرين، وإنّما للفقراء والمستضعفين، فكان يخفض لهم جناح البرّ والمودّة، وقد ضارع بذلك أخاه وابن عمّه الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقد كان للمؤمنين أبا وللفقراء أخا..
ونعرض فيما يلي لبعض ما أثر عنه (عليه السلام).
شذرات من تواضعه (عليه السلام):
١- وَفَدَ عليه رجل مع ابنه فرحّب بهما وأجلسهما في صدر المجلس، ثمّ أمر لهما بطعام، وبعد الفراغ منه بادر الإمام فأخذ الإبريق ليغسل يد الأب ففزع الرجل، وقال: كيف يراني الله وأنت تصبّ الماء على يدي؟
فأجابه الإمام (عليه السلام) برفق ولطف بما معناه: (إنّ الله يراني أخاك الّذي لا يتميّز منك، ولا يتفضّل عنك، ويزيدني بذلك منزلة في الجنّة).
أيّ روح ملائكية هذه الروح؟ وأيّ سموّ في الذات هذا السموّ؟
وانصاع الرجل إلى كلام الإمام (عليه السلام)، فصبّ الماء على يده، ولمّا فرغ ناول الإبريق إلى ولده محمّد بن الحنفية، وقال له: (يا بنيّ، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت الماء على يده، ولكنّ الله يأبى أن يسوّي بين ابن وأبيه)، وقام محمّد فغسل يد الولد[29].
٢ - اجتاز الإمام (عليه السلام) في رجوعه من صفّين على دهّاقين الأنبار فقابلوه بمزيد من التعظيم والتكريم، وصنعوا له كما يصنعون للملوك والأمراء، فأنكر الإمام (عليه السلام) عليهم ذلك وقال لهم: (والله! ما ينتفع بهذا امراؤكم، وإنّكم لتشقّون به على أنفسكم، وتشقّون به على آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وما أربح الرّاحة معها الأمان من النّار)[30].
3- عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) على أصحابه وهو راكب، فمشوا خلفه فالتفت إليهم فقال: ألكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحبّ أن نمشي معك، فقال لهم: انصرفوا فإنّ مشي الماشي مع الراكب مفسدة للرّاكب ومذلّة للماشي: قال: وركب مرّة أخرى فمشوا خلفه، فقال: انصرفوا فإنّ خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة)[31].
4- وعن الامام الصادق (عليه السلام): (كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحطب ويستسقي ويكنس، وكانت فاطمة (عليه السلام) تطحن وتعجن وتخبز)[32].
5- وروي أنّه اشترى تمراً بالكوفة، فحمله في طرف ردائه، فتبادر الناس إلى حمله وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله، فقال (عليه السلام): (ربّ العيال أحقّ بحمله)[33].
حقّا إنّ هذه الأخلاق أخلاق الأنبياء العظام وأوصيائهم، وقد مثّلها بسيرته وسلوكه سيّد الأوصياء وإمام المتّقين والأخيار.