لم تعرف الدنيا رجلاً جمع الفضائل ومكارم الأخلاق - بعد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقد سبق الأولين، وأعجز الآخرين، ففضائله (عليه السلام) أكثر من أن تحصى، ومناقبه أبعد من أن تتناهى، ولقد كانت أخلاقه (عليه السلام) قبساً من نور خلق النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الذي تربى في حجره وعاش على مائدة مكارم أخلاقه، حتى شب عن الطوق، واكتملت رجولته، حيث كان يتولاه بالمواعظ والآداب العظيمة، فتنامت أخلاقه شموخاً، وسجاياه علواً ورفعة، وظلت فضائله وأخلاقه ومكارمه حية متألقة في روحه حتى فارق الدنيا.
شواهد من عبادته:
كثرة تعاهده لأمر الصلاة والتضرع إلى الله سبحانه تعالى:
يشير عروة بن الزبير في حديث له عن أبي الدرداء: قال: شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات[1] النجار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن يليه، واستتر بمغيلات[2] النخل، فافتقدته، وبعد عن مكانه، فقلت الحق بمنزله فإذا أنا بصوت حزين ونغم شجي، وهو يقول: (إلهي كم من موبقة حملت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك.
إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك).
فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعينه، فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغامر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء، والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله تعالى أن قال: (إلهي أفكر في عفوك، فتهون عليّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك، فتعظم عليّ بليتي).
ثم قال (آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته ولا يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء).
ثم قال (آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من لهبات لظى).
قال أبو الدرداء: ثم أمعن في البكاء، فلم أسمع له حساً، ولا حركة.
فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته، فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو.
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم.
فقالت فاطمة (س): يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟
فأخبرتها الخبر.
فقالت: (هي والله – يا أبا الدرداء – الغشية التي تأخذه من خشية الله).
ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق، ونظر إليَّ وأنا أبكي فقال: مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟
فقلت: مما أراه تنزله بنفسك.
فقال: يا أبا الدرداء، فكيف لو رأيتني، ودعى بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء ورفضني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية.
فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)[3].
عبادة الشاكرين:
ولقد عظم المعبود عزّ وجلّ في نفس الإمام (عليه السلام) فصارت عبادته تعبيراً عن الحب له والشوق إليه، واستشعار أهليته للعبادة دون سواه، ومن أجل ذلك كان عليّ (عليه السلام) لا يعبد الله خوفاً من عذابه، ولا طمعاً في جنته ولا فيما أعده من نعيم للمتقين، وإنما سما الإمام (عليه السلام) في علاقته بالله تعالى إلى أعلى الدرجات أسوة بأستاذه الرسول (صلّى الله عليه وآله).
وقد كشف الإمام (عليه السلام) عن جوهر علاقته بالله تعالى وطبيعتها بقوله:
(إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)[4].
فأعظم به من يقين، وأكرم به من إيمان.
ولقد حدد الإمام (عليه السلام) ألوان العبادة في كلمة خالدة: (إن قوماً عبدوا الله رغبةً، فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار)[5].
وكانت عبادته (عليه السلام) من النوع الأخير، حيث تصدر كحصيلة للشعور بأهلية المعبود للعبادة واستحقاقه لها.
نكتفي بهذا القدر، وإلا الحديث عن فضائل عليّ (عليه السلام) كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لو أن الغياض أقلام، والبحر مداد، والجن حساب، والانس كتاب، ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب)[6].
المصادر:
ـ الأمالي ـ الشيخ الصدوق: مؤسسة البعثة مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة الأمالي ـ الطبعة: الأولى 1417 ه. ق.
ـ بحار الأنوار ـ العلامة المجلسي: دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان ـ الطبعة الثالثة المصححة ـ 1403 ه. 1983 م.
ـ نهج البلاغة ـ خطب الإمام علي (عليه السلام) ـ الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.
ـ مناقب الإمام أمير المؤمنين: محمد بن سلمان الكوفي ـ مجمع احياء الثقافة الاسلامية ـ الطبعة الأولى محرم الحرام 1412. إيران - قم