لمَّا انتهت حرب الجمل استعدَّ الإمام إلى حرب معاوية، فوجد حماساً وتجاوباً من أهل الكوفة، حيث كان قسم كبير منهم قد اشتركوا معه في معركة الجمل، وهم الآن يريدون أن يضيفوا نصراً جديدا للإسلام.
ثمَّ إنَّ الإمام وقبل حرب صفِّين كان قد أرسل إلى معاوية السفراء والكتب يدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل المسلمون من قبله، لكنَّه لم يستجب لطلبه، بل أظهر الشدَّة والصلافة في ردِّه على رسائل الإمام، واختار القتال على الصلح والمسالمة.
في هذه الأثناء تجهَّز معاوية بجيشٍ ضخمٍ واتَّجه به صوب العراق، ولمَّا بلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) خبره جهَّز جيشه، واتَّجه نحو الزحف، ليقطع عليهم الدخول إلى أرض العراق، لما في ذلك من قتل ونهب وفساد كبير.. فكان من ذلك حرب صفِّين.
ونزل معاوية بمن معه في وادي صفِّين، وأخذ شريعة الفرات، وجعلها في حيِّزه، وبعث عليها أبا الأعور السُّلمي يحميها ويمنعها... وبعث أمير المؤمنين (عليه السلام) صعصعة بن صوحان إلى معاوية، يسأله أن يخلِّي بين الناس والماء، فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فبعضهم قال: امنعهم الماء، كما منعوه ابن عفَّان، اقتلهم عطشاً قتلهم الله، لكنَّ عمرو بن العاص حاول أن يقنع معاوية بأن يخلِّي بين القوم وبين الماء، فرجع صعصعة فأخبره بما كان، وأنَّ معاوية قال: سيأتيكم رأيي، فسرَّب الخيل إلى أبي الأعور ليمنعهم الماء.
ولمَّا سمع عليٌّ (عليه السلام) ذلك قال: "قاتلوهم على الماء"، فأرسل كتائب من عسكره، فتقاتلوا واشتدَّ القتال، واستبسل أصحاب الإمام أشدَّ استبسالٍ، حتى خلَّوا بينهم وبين الماء، وصار في أيدي أصحاب عليٍّ (عليه السلام).
فقالوا: والله لا نسقيه أهل الشام! فأرسل عليٌّ (عليه السلام) إلى أصحابه أن: "خذوا من الماء حاجتكم وخلُّوا عنهم، فإنَّ الله نصركم بغيِّهم وظلمهم"[أنظر: الكامل في التاريخ: ج 3، ص 167، وسير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين): ص 267 مختصراً].
بهذا الخُلق الكريم عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) أشدَّ مناوئيه.. ثمّ دعا عليّ (عليه السلام) جماعة من قادة جنده، فقال لهم: "ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله والى الطاعة والجماعة".
ففعلوا ما أمرهم به، لكنَّ معاوية قال لهم بعد أن سمع كلامهم: انصرفوا من عندي، فليس بيني وبينكم إلّا السيف، وغضب القوم، وخرجوا، فأتوا عليَّاً (عليه السلام) فأخبروه بذلك..
واحتدم القتال بين الطرفين، فاقتتلوا يومهم كلَّه قتالاً شديداً لم يشهد له تاريخ الحروب مثيلاً، ثُمَّ تقدَّم الإمام عليٌّ (عليه السلام) بمن معه يتقدَّمهم عمَّار بن ياسر، ولمَّا برز لعمرو بن العاص قال عمَّار: "لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث مرّات، وهذه الرابعة ما هي بأبرَّ وأنقى"[م. ن: ج 3، ص 187 وانظر سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 265] يعني: راية معاوية.
وقال حبَّة بن جُوَين العُرَني: قلتُ لحذيفة بن اليمان: حدِّثنا فإنَّا نخاف الفتن.
فقال: عليكم بالفئة التي فيها ابن سُميَّة، فإنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: "تقتله الفئة الباغية الناكبة (الناكثة) عن الطريق، وإنَّ آخر رزقه ضَياح من لبن"، وهو الممزوج بالماء من اللبن، قال حبَّة: فشهدته يوم قُتل وهو يقول: ائتوني بآخر رزقٍ لي في الدنيا، فأُتي بضياحٍ من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء ـ وقد تضعضع الكثيرون من أتباع ابن أبي سفيان لموقف عمَّار، لأنَّ مقولة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه لم تكن خافيةً على أحدٍ من الناس: "فطوبى لعمَّار تقتله الفئة الباغية، عمَّار مع الحقِّ يدور معه كيفما دار" وهذا كلُّه من دلائل نبوَّة محمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم).
رفع المصاحف.. "كلمة حقٍّ يُراد بها باطل":
لمَّا رأى عمرو أنَّ أمر أهل العراق قد اشتدَّ وخاف الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمرٍ أعرضه عليك، لا يزيدنا إلّا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلّا فرقةً؟ قال: نعم. قال: نرفع المصاحف، ثُمَّ نقول: هذا حكم بيننا وبينكم.
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا كتاب الله عزَّ وجلَّ بيننا وبينكم، مَنْ لثغور الشام بعد أهله؟ مَنْ لثغور العراق بعد أهله؟ فلمَّا رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله.
فقال لهم عليٌّ (عليه السلام): "عباد الله امضوا على حقِّكم وصدقكم وقتال عدوِّكم، فإنَّ معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحَّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرَف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثُمَّ رجالاً، فكانوا شرَّ أطفال وشرَّ رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلّا خديعةً ووهناً ومكيدة". فقالوا له: لا يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله! فقال لهم عليٌّ (عليه السلام): "فإنِّي إنَّما أُقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب، فإنَّهم قد عصوا الله فيما أمره ونسوا عهده ونبذوا كتابه".
فقال له جماعة من المسلمين، الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا عليُّ، أجب إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ إذا دُعيت إليه، وإلا دفعناك برمَّتك إلى القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفَّان!
قال: "فاحفظوا عنِّي نهيي إيَّاكم، واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوا فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم"[أنظر: الكامل في التاريخ: ج 3، ص 192 ـ 193، وسير أعلام النبلاء: ج 2، ص 264 مختصراً].
لم تكن بينهم وبين معاوية إلّا بضعة أمتار، فلولا وقوع هؤلاء في الفخ الذي نصبه معاوية لاستطاع الإمام (عليه السلام) أن يسيطر على الموقف ويستأصل رأس الفتن، ولكنَّ مسألة التحكيم غيَّرت مجرى الأُمور إلى أسوأ حال، فحالت دون تحقيق الهدف المنشود، وقُدِّر لهذه المؤامرة أن تنجح وأن تجرَّ وراءها المصائب والويلات!
لمَّا انتهت مسألة التحكيم، قال نفرٌ من أصحاب الإمام: كيف تُحكِّمون الرجال في دين الله؟! لا حكم إلّا لله، وكانوا
يعترضون الإمام في خطبته بشعارهم "لا حكم إلّا لله" لذلك سُمُّوا بالمحكِّمة. فكانوا ما يقارب اثني عشر ألفاً. فنزلوا في ناحية يُقال لها: "حروراء" لأجلها سُمُّوا بالحرورية.
فحاججهم الإمام (عليه السلام) بقوله الأوَّل قبل التحكيم، ثُمَّ قال لهم: "قد اشترطتُ على الحكمين أن يُحييا ما أحيا القرآن، ويُميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن عن حكمهما براء".
قالوا: أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: "إنَّا لسنا حكَّمنا الرجال، إنَّما حكَّمنا القرآن، وهذا القرآن إنَّما هو خطٌّ مسطور بين دفَّتين لا ينطق، إنَّما يتكلَّم به الرجال"[ الكامل في التاريخ: ج 3، ص 203] ثمَّ رجعوا مع الإمام (عليه السلام).
فلمَّا التقى الحكمان: أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وخُدِع أبو موسى، إذ مكر به عمرو، قال له: أنت صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأسنُّ منِّي فتكلَّم، وأراد عمرو بذلك كلِّه أن يقدِّمه في خلع عليٍّ، قال له:
نخلع عليَّاً ومعاوية معاً، ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبُّوا.
فتقدَّم أبو موسى فأعلن على الملأ الحاضرين أنَّه قد خلع عليَّاً من الخلافة ثُمَّ تنحَّى. وأقبل عمرو فقام، وقال: إنَّ هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأُثبت صاحبي معاوية! [الكامل في التاريخ: ج 3، ص 208، سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 270 ـ 271] فدُهش أبو موسى وشتم عمراً وشتمه عمرو، وانفضَّ التحكيم عن هذه النتيجة!
والتمس المسلمون أبا موسى فهرب إلى مكَّة، ثُمَّ انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلَّموا عليه بالخلافة.
مع هذه النتيجة عاد عليّ (عليه السلام) يعمل على إعادة نظم جيشه، استعداداً لمرحلة جديدة من الحروب، ولكن فتناً جديدة نجمت بين أصحابه ستمنع من انطلاقته صوب أهدافه..