الحلقة الخامسة: (فضيلة زيارة الإمام علي (ع))
إن لعموم المشاهد المشرفة لأضرحة المعصومين (ع) مكانة خاصة في نفوس الأتباع والشيعة، ولها حرمة وقداسة في إحيائها، بالدعاء، والأذكار، والصلوات، فقد حثت النصوص وأكدت على تعميق الصلة والعلاقة مع الأئمة وزيارة مراقدهم المطهّرة، فوضعت المؤمنين أمام مسؤولياتهم المباشرة في معرفة حق الله تعالى، ومعرفة حق رسوله، وحق أوليائه المطهرين، وعلى الناس أن يلاحظوا الشرائط التي توصلهم إلى الكمال، فتلك من أفضل الطاعات وأعظم القربات.
فمن منطلق الولاية التي فرضها الله تعالى بالخضوع لهم والانقياد لأمرهم، شكلت للزائر حين زيارته لعتباتهم المقدسة أساساً روحياً تترتب عليه آثار دنيوية وأخروية، وامتثالاً لما أوجبه القرآن الكريم في مودتهم وبما أكدته السنة النبوية في طاعتهم ومحبتهم.
فقد ورد عن زيد الشحّام قوله: قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): (ما لمن زار واحداً منكم؟ قال: كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله)[1].
وقال الإمام الرضا (ع): (إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائه، وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم، وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاؤهم يوم القيامة)[2].
أما زيارة مرقد الوصيّ أمير المؤمنين علي (عليه أفضل الصلاة والسلام) فلها وضع خاص لمقامه السامي، بوصفه أباً لتلك الشجرة الطاهرة، والزائر يؤسس بزيارته علاقة معه، ومع كل زيارة يكررها إفاضة، يجدد فيها قدراته الذهنية والوجدانية، وهو ما يشير إليه علماء المذهب والمؤمنون من خلال ملاحظاتهم وتجاربهم، حتى أنهم أكدوا عند الاستغراق في الزيارة أنها تقدم علاجاً للتخلص من الآلام النفسية، والاضطرابات الفكرية، والقلق، والتوتر، والكآبة، والشفاء منها لما لها من تأثيرات على الإنسان، فالتقرب من المصطفين بركة ربانية وألطاف، وأمن نفسي وقلبي، لما للإمام (ع) من مكانة يستوحيها الزائر أنها عطاء وفيض إلهي مبارك.
شرعية الزيارة:
لقد جاءت التأكيدات من رسول الله (ص) ونقلها الأصفياء من آل بيت النبي (ص) حول فضيلة زيارة المولى علي بن أبي طالب (ع) بأحاديث شريفة متعددة، وكوكبة من النصوص التي تؤكد على فضيلة إتيان مرقده المقدس، وزيارة مشهده المشرف بأسانيد معتبرة.
فقد ورد عن أبي عامر قال أتيت أبا عبد الله الصادق (ع): وقلت له: (يا ابن رسول الله ما لمن زار قبر أمير المؤمنين (ع)، أو عمّر تربته؟ قال: يا أبا عامر، حدثني أبي عن أبيه عن جدّه الحسين (ع) عن عليّ (ع) أن رسول الله (ص) قال: والله لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، قلت: يا رسول الله، ما لمن زار قبورنا، وعمّرها، وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن إن الله جعل قبرك، وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنّة، وعرِصة من عرصاتها، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوّة من عباده تحنّ إليكم، وتحتمل المذلّة، والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها تقرباً منهم إلى الله، ومودةً منهم لرسوله، أولئك يا عليّ المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنّة يا عليّ، من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمّه، فأبشر وبشّر أولياءك، ومحبيك من النعيم، وقرّة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يُعيّرون زوار قبوركم، كما تُعيّر الزانية بزناها، أولئك شرار أمتي لا أنالهم الله شفاعتي، ولا يردون حوضي)[3].
وبإسناد معتبر عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: (من زار أمير المؤمنين عليه السلام عارفاً بحقه غير متجبر ولا متكبّر، كتب الله له أجر مائة ألف شهيد، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وبُعث من الآمنين، وهوّن عليه الحساب، واستقبلته الملائكة)[4].
وقال (ع): (من زار أمير المؤمنين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكل خطوة حجة، وعمرة، فإن رجع ماشياً كتب الله له بكل خطوة حجتين، وعمرتين)[5].
وقال (ع) لابن مارد: (والله يا أبن مارد ما تطعم النار قدماً تغبرّت في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، ماشياً أو راكباً، أكتب هذا الحديث بماء الذهب)[6].
وقال (ع): (من ترك زيارة أمير المؤمنين عليه السلام لم ينظر الله إليه, ألا تزورون من تزوره الملائكة والنبيون)[7].
وقال (ع): (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله إن داري بعيدة، وإنني أشتاق إلى زيارتك، ورؤيتك، فأقدم إليك زائراً فلا يتيسر رؤيتك, فأزور علي بن أبي طالب ثم أعود مغتماً محزوناً لما آيست من زيارتك, فقال صلى الله عليه وآله: من زار عليّ فقد زارني, ومن أحبه فقد أحبني, ومن عاداه فقد عاداني, بلغه عني إلى قومك, ومن أتاه زائراً فقد أتاني، وإني مجزيه يوم القيامة، وجبرائيل، وصالح المؤمنين)[8].
وقال صفوان: زرت مع سيدي أبي عبد الله الصادق (ع)، وقلت نزور الإمام الحسين (ع) من هذا المكان من عند رأس أمير المؤمنين (ع)، فقال (ع): (فإني ضامن على الله لكل من زارهما بهذه الزيارة[9]، ودعا بهذا الدعاء[10]، من قرب أو بعد إن زيارته مقبولة، وإنّ سعيه مشكور، وسلامه واصل غير محجوب، وحاجته مقضية من الله بالغة ما بلغت، وإنّ الله يجبه)[11].
وفيما يخص يوم (عيد الغدير) فقد قال الإمام الرضا (ع): (يا بن أبي نصر، أين ما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين، فإن الله يغفر لكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان، وليلة القدر، وليلة الفطر، والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، وأفضل على إخوانك في هذا اليوم، وسرّ فيه كل مؤمن، ومؤمنة، وقال: والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات)[12].
وأما فضيلة الدعاء، والصلاة أمام ضريحه المبارك، فقد بينها الإمام الصادق (ع) بقوله: (إن أبواب السماء لتفتح عند دعاء الزائر لأمير المؤمنين، فلا تكن عن الخير نواماً)[13].
لقد دفعت مثل هذه الروايات وغيرها من النصوص المتكاثرة الناس إلى التهافت على زيارة المولى أمير المؤمنين عليّ (ع)، وإلى مجاورته والسكن والدفن عند حضرته تقرّباً إلى الله عزّ وجلّ ورسوله، وعرفاناً منهم بفضل هذا الرجل العظيم على الإسلام والمسلمين، ونيل شفاعته في الدنيا والآخرة.
وأما الخدمة في هذا الحرم المطهّر فهي لعظمة اللطف الإلهي الذي يتمتع به كل من خدم حرم أمير المؤمنين (ع)، أو من زار مرقده المطهّر فقد خصّ بها تعالى أولئك بالانتماء لصفي الله تبارك وتعالى وحبيب رسوله (ص)، وهو شرف ما بعده شرف تتطلع إليه الملايين من عشاق الولاية، وتتوق إليه نفوسهم، وتهفو إلى أجوائه قلوبهم، ويتزودون وهم بالقرب من روحه لأرواحهم، ومن نوره دواءً لدائهم.
نعم إن ما تؤمن به الشيعة عند زيارة المولى علي بن أبي طالب (ع) أو عند العمل على نضارة مكانه، أو عند السهر على خدمة زائريه الكرام، تعبيراً وتعظيماً لمكانته المقدسة، وطهارة للنفس، وجهاداً للروح، ورفعاً للمستويات المستندة إلى القيم الدينية، والإنسانية، والخلقية.
فلسفة الزيارة:
ندبت الشريعة الإسلامية إلى ممارسة هذا العمل العبادي المبارك، بالتخطيط له من فجر الإسلام، لتضطلع الأمّة الإسلامية بمسؤولية هذه الثقافة التي أسس لها رسول الله (ص)، وأئمة أهل البيت (ع) فأرادوا من الأمة أن يقع مداها ضمن المنهجية القرآنية والنشأة الصحيحة على ضوء الالتزام بالقيم الإسلامية.
وهو ما حصل بصدد إثراء الحياة الدينية، والاجتماعية من خلال أحاديثهم التي رسخت معاني هذا العمل الخاص، الذي تمتزج فيه الأبعاد العقلية، والروحية، والعاطفية مع مبادئ ومناهج صاحب المكان، للاقتداء به؛ لأنه يمثل رمزاً من رموز الابتعاد عن المؤثرات المادية، والانقطاع إلى الله تعالى.
فشكّلت الزيارة حالة من التأكيد على إيجابيتها في ربط الشيعة والمؤمنين بخالقهم، وبنبيهم، وبإمامهم صاحب المرقد الشريف.
أما أسرار العظمة في فكرة الحث على الزيارة أن لها دوراً مهماً في الكسب الجماهيري الواسع، الذي يحصل عادةً عند إحياء بعض المناسبات الدينية، كالزيارات الخالدة (الغديرية، والرجبية، والشعبانية، والأربعينية) وبقية الزيارات العامة، والمخصوصة، التي تحظى بعناية كبيرة من قبل أتباع أهل البيت (ع) ومحبيهم.
فمن معطيات الزيارة نشر الوعي الديني، والالتزام الشرعي، وتجسيد مشاعر الودّ والمحبة النابعة من تبعية المؤمن للمعصوم.
فالزيارة تدفع بتلك التجمعات الإيمانية بإرادة ذاتية، وبمختلف طرق الاجتماع الديني والعقدي، إلى بناء (التكايا، والمواكب، والهيئات الحسينية، ومجالس الذكر، والعزاء، وما إلى ذلك) وهذا النمط من العطاء (الجسدي، والروحي، والمالي) استبطن الاستعداد للتضحية بالنفس، وبذل الجهد والمال من أجل العقيدة.
وكان ذلك من استشراف الأئمة (ع) للقيام بهذه الشعيرة، ومن خلال قراءتهم للواقع في رؤاهم المستقبلية الدقيقة، فأوجدوا حالة من التنبيه للأخطاء التي ارتكبت بحقهم في تلك الحقبة بعد غياب رسول الله (ص)، وتوضيحاً للمواقف السلبية التي أتت ممنهجة من قبل الحكام ضدهم.
فالعناية بالزيارة كان لها أبعاد إدامة المشاريع الرافضة على الصعيد الشعبي لكل أشكال العنف والظلم، والتعسف، الذي طالهم (ع)، وطال أتباعهم منذ القدم وإلى الآن.
فأصبح هذا العمل على طول التأريخ صرخة تقضّ مضاجع الظالمين أينما وجدوا، تفقدهم صوابهم، وتوازنهم الذي ظهر من خلال اقترافاتهم الهمجية، والعدوانية عبر قيامهم بأعمال هدم العتبات المقدسة وتفجيرها، أو الفتك بالزائرين ومعاقبتهم، وبجميع الوسائل والخطط الشيطانية الكثيرة، لمنع الزيارة والحد منها.
آداب الزيارة
وللزيارة آداب ينبغي للزائر مراعاتها، وهي عديدة أولها الغسل، وأن يدعو بالمأثور من الأدعية، وأن يلبس ثياباً طاهرة نظيفة، ويكون خاشعاً، ومُقصّراً خطاه في سيرّه إلى الزيارة، وأن يتطيب، ويشغل لسانه بالتكبير، والتحميد، والتسبيح، والتهليل، والتمجيد، والصلاة على محمد وآله، ثم يقف على الباب ويستأذن ويقف على الضريح ويقبّله، ويدعو الله عز وجل بحق صاحب القبر أن يجعله من أهل شفاعته، ويبالغ في الدعاء.
وعلى الزائر أن يزور وهو قائم على قدميه بالزيارات المأثورة عن الأئمة (ع)، ثم يصلي صلاة الزيارة وهي ركعتان، ثم تلاوة شيء من القرآن الكريم يهديها للإمام (ع)، ويترك التكلم بأمور الدنيا، فهي مانعة للرزق، ومجلبة لقساوة القلب، وأن لا يرفع الصوت، وأن يتوب إلى الله ويستغفر من ذنوبه، ثم يودع الإمام (ع) وينصرف، ولو حصل ازدحام للزائرين قرب الضريح عليهم أن يخففوا زيارتهم، وينصرفوا ليفوز غيرهم بالدنوّ من الضريح الطاهر[14].
ومن توجيهات الإمام زين العابدين (ع) في زيارة المولى أمير المؤمنين (ع)، قال: إذا أردت زيارة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فاغتسل، والبس البياض من الثياب، وامشِ حافياً، وعليك السكينة والوقار، بالتكبير، والتهليل، والتمجيد، والتسبيح، والتعظيم لله تبارك وتعالى، والصلاة على النبي وآله، ثم أورد الزيارة المعروفة (أمين الله)[15]، أو غيرها من الزيارات المذكورة، والحمد لله رب العالمين.