الحلقة السابعة: (علي (ع) مسؤولية الأمة)
إن من الملاحظ في تنصيب خليفة للنبي (ص) أنه لا يمكن مطلقاً تعيينه إلا من قبل السماء، لأن هذا الأمر الرسالي في الهادي والمرشد مقطوع تعلقه بيد الله تعالى ورسوله (ص)، طبقاً لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[1]، فالآية الكريمة توضح عدم امكانية التدخل في هذا الاختيار لأن النبي (ص) صرح بأن خليفة المسلمين بعده علي بن أبي طالب (ع) بأدلة وبراهين كثيرة جداً بينّا جزءاً منها في هذه الحلقات.
ولكن بعض الصحابة لم يرق لهم أن يتولاها الإمام علي (ع)، تبين ذلك من طريقة مسارعتهم إلى اختيار خليفة آخر مفتقر إلى مؤهلات الخلافة بأول دقائق بعد رحيل النبي (ص) عنهم، عند اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة وكانت مبرراتهم دعاوى باطلة حاصلها أن النبي (ص) لم يعين له خليفة، وأن حكم المسلمين شورى بينهم.
إن الملامح السلبية في هذه الأفكار نكسة بحق أمة تتهم نبيها ظلماً وعدواناً، ولم يتهيبوا في طرح هذا الادعاء ضد النبي (ص) أنه لم يحسب حساب الاختلاف في كلمة المسلمين بعده.
بينما أي عاقل يدرك لو أن النبي (ص) ترك المسلمين بدون وصية سيختلفون قطعاً بل أنه يسمح للأقوى أن يستحوذ، ويمسك زمام السلطة، أليست الأنظمة والحكومات وإلى اليوم درجوا على تعيين ولي عهد للملك أو للرئيس لتخوفهم على شعوبهم من ويلات التشرذم، والنزاع، والاختلاف، ولم يعرف في التأريخ الحديث أن أحداً من هؤلاء لم يعين ولياً لعهده، فيا ترى من هو الأكثر تخوفاً من بينهما؟ ورسول الله (ص) طوال التأريخ كان ينادي بطرق مختلفة بوجوب مودّة علي بن أبي طالب (ع) وطاعته وعدم منازعته في حقه بالخلافة.
وللأمانة التأريخية فقد ذُكر أن عائشة أرادت تنبيه عمر بن الخطاب عند احتضاره فقالت: (استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة)[2].
ومعاوية بن أبي سفيان لما استخلف ولده يزيد قال: (كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها)، وعلق ابن خلدون على هذه المسالة بقوله: من هذا نفهم أن الخليفة يتمتع بصلاحيات أكثر مما يتمتع بها النبي (ص)، لأن الخلفاء اتخذوا أولياء لعهودهم، والنبي (ص) لم يتخذ لرسالته ولياً، فكانوا الأدرى بمصلحة الأمة[3].
مسألة أن حكم المسلمين يتم بشورى بينهم، بالحقيقة والواقع أن من يراجع سير الأحداث التأريخية يجد غير هذا الكلام، فحكم الثلاثة الخلفاء لم يتم على أساس شورى بدليل أن بعضهم نص على بعض، والثالث عثمان بن عفان عُيّن تعييناً، ولعدم رجوعهم إلى المقررات الشرعية، كانت تلك أول مرحلة انقسام الأمة الإسلامية، جرّاء تحكيم الأهواء، وهو ما أوقع المسلمين في أتون من الحروب والفتن، نتيجة رفضهم إجراءات رسول الله (ص) وعدم قبولهم بما قبل به الله ورسوله.
فلذلك تعرضت المنظومة الإسلامية للانهيار، وتبعات تلك المرحلة كانت بداية الاختلاف دفع ثمنها المسلمون، وأدت إلى ظهور الطوائف والفرق، فكانت أخطر مرحلة مرت على الأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله (ص).
في فكر طائفة الشيعة خزين كبير من الآيات القرآنية وأحاديث من السنة النبوية، وكل الوقائع، والحوادث، والمناسبات، شواهد وأدلة دامغة ساقت الشيعة إلى امتثال أمر الله ورسوله في علي بن أبي طالب (ع)، فالحجج أجبرتهم كما أجبرت أولئك الأوائل أمثال: سلمان المحمدي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والمقداد وغيرهم، حتى صاروا يعرفون آنذاك بـ(العلوية)، مع بقاء اسم الشيعة عليهم بدلالة أقوال رسول الله (ص) مخاطباً علياً (ع): (أنت وشيعتك هم الفائزون)[4]، و(أنت وشيعتك راضين مرضيين)[5]، و(أنت وشيعتك على الحوض تسقون من أحببتم، وتمنعون من كرهتم، وأنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر)[6]، و(يا علي إن الله أكرمك كرامة لم يكرم بها أحداً من خلقه، زوجك الزهراء من فوق عرشه، وأكرم محبيك بدخول الجنة بغير حساب، وأعدّ لشيعتك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ووهب لك حب المساكين في الأرض، فرضيت بهم شيعة، ورضوا بك إماماً، فطوبى لمن أحبك، وويل لمن أبغضك)[7].
إذن الذي لا يرى من المسلمين هذه الحقيقة واتبع سنة الخلفاء صاروا يعرفون بـ(بالعثمانية)، واستمرت هذه التسمية إلى مدة حكم بني أمية، وبني العباس، وبعدها نُسخ اسم (العلوية والعثمانية) وأطلق على من اتبع سنة النبي (ص) بـ(الشيعة)، وأطلق على من اتبع سنة الخلفاء الراشدين ب(أهل السنة)[8].
وبدأ الصراع السياسي بين الفريقين من خلال نتائج الطروحات والآراء الفردية التي تبنتها تلك الشخصيات في حكم المسلمين، وسرعان ما تطور الوضع إلى صراع عقائدي بقي إلى يومنا هذا.
أمران مهمان جعلا بعض المسلمين في دوامة النقمة والعداء لآل بيت النبي (ص) ولأتباعهم، الأول: عندما لم يمتثل الخلفاء أمر رسول الله (ص) فيمن عينه لهم خليفة من بعده، وأحرقوا بعد رحيل النبي (ص) جميع أحاديثه المكتوبة، ومنعوا بعصا العقوبات تدوينها والتحدّث فيها، خوفاً من أن يذكر حديث فيه تمجيد أو منقبة للوصي علي وأهل بيته (ع)، وما كان أحد يجرؤ على منع ذلك لأنه يتهم بالرفض والتشيع، وهذه جريمة تعاقب عليها السلطة، وتعاقبت الحكومات على هذا النهج فكان لها نفس طريقة الردع ليمتنع الناس من تأييد أهل البيت (ع).
ومن الذرائع التي تبناها الخلفاء أن بني هاشم لا يحق لهم جمع الفضيلتين النبوة، والخلافة، فيذهبوا بالشرف كله، وهذا ظلم بحسب ظنهم يلحق بقريش، ومقولتهم تلك طبعاً نابعة من عدم التفريق بين حكم الدين ذي النظام الإلهي، وحكم الدولة وأنظمته الوضعية.
والأمر الآخر: أن أول حاكم من حكام بني أمية أحدث تزويراً كبيراً في أقوال وأحاديث النبي (ص)، فبلغ حجم الأكاذيب والمبتدعات في أغلب الحقائق التأريخية والإسلامية كبيراً جداً، وكان الغرض محو أي أثر ودور لأئمة أهل البيت (ع).
وهو ما شلّ حركة الفكر الإسلامي فيما بعد وجعل الأجيال المسلمة تتخبط بآرائها، وتذهب بغير هدى إلى غير مذهب أهل البيت (ع).
راجع التأريخ لتتعرف كم عمل هذا الحاكم الأموي على ترسيخ سياسة التخويف وشراء الذمم، لأجل نكران أوامر النبي (ص) بخصوص خليفته الشرعي علي (ع)، وتضعيف دوره في عقول المسلمين بطريقة ممنهجة.
نعم، كان لمعاوية بن أبي سفيان الأثر البالغ في الإيذاء، فكان يكتب إلى عماله: (أن برئت الذمة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب، وأهل بيته، فقامت الخطباء على كل منبر يلعنون الإمام علياً (ع)، ويبرؤون منه، ويقعون فيه، وبأهل بيته)[9]، يتقربون بذلك إلى الحاكم، فكان إعلاماً مزوراً أخذ دوره وتناقلته الأجيال المسلمة، وما كانوا ليدركوا أنهم خلف ستار من التآمر، فسبب لهم الابتعاد عن فكر الإمام علي (ع) وعدم اكتشافهم لشخصيته الإلهية، الذي قال فيه رسول الله (ص): (لو اجتمع الناس على حب علي بن أبي طالب لما خلق الله النار)[10].
وكان من ترشحات هذه القضية أن كمّاً هائلاً من المسلمين صاروا أعداءً ليس لعلي (ع) فحسب، بل لآل بيت النبي (ص) ولكل من يواليهم، وصاروا يدينون الله تعالى بعيداً عن فكر أهل البيت (ع) جرّاء تعمق هذه المصائب في صدورهم، وهذه من المسائل التي يجب أن يرتاع منها المسلمون، أن من يسير في ركب علي (ع) هو في موضع شك واتهام، وبقي الحال بالوتيرة ذاتها إلى الآن.
فمظلومية العترة الطاهرة استمرت على هذا النحو من عمق التأريخ، فلحقت بهم صنوف من الأذى، وصار لهم شبه وسنة من سنن الأنبياء في الاعتداء عليهم، تحاربهم شياطين الجن والإنس بذات الغرض ألا يعبد الله في الأرض حق عبادته.
نعم، قضية الإمامة والخلافة في نظرهم مجرّد مظاهر وأهواء وتسلط دون النظر إلى ما تخلفه تصرفاتهم من عواقب، فانقلبت الأمة إلى أمة جديدة بفارق معنوي هائل عن عهد رسول الله (ص) حين لم تأخذ الضوابط الشرعية بنظر الاعتبار.
وهو ما ذهب إليه الإمام الصادق (ع) بقوله: (من أشرك مع إمام إمامته من عند الله من ليست إمامته من الله كان مشركاً بالله)[11].
فالمسألة أكبر من تبديل قائد محل قائد، أو تهميش للخليفة الشرعي، واستبداله بوجه آخر والناس يبايعونه، وإنما العملية إجهاض للإسلام وتبديله بخط جاهلي، وهو ما تنبأ به القرآن الكريم في قوله تعالى: (أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم)[12].
و(عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)، قال: هم والله أولياء فلان وفلان، اتخذوهم أئمة دون الإمام الذي جعله الله للناس إماماً، فذلك قول الله تعالى: (ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار)، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: هم والله يا جابر أئمة الظلمة وأشياعهم)[13].
وذُكر أن للشافعي نظماً بهذا الخصوص[14]:
إذا فِي مَجْلِسٍ ذَكَرُوا عَلِيّاً وَسِبْطَيْهِ وَفاطِمَةَ الزَّكِيَّهْ
وَقالَ تَجَاوَزُوا يَا قَوْمُ هَذا فَهَذَا مِنْ حَدِيثِ الرَّافِضِيَّه
بَرِئْتُ إلى الْمُهَيْمِنِ مِنْ أُنَاسٍ يَرَوْنَ الرَّفْضَ حُبَّ الْفاطِمِيَّهْ
عَلَى آلِ الرَّسُولِ صَلَاةُ رَبِّي وَلَعْنَتُهُ لِتِلْكَ الْجَاهِلِيَّه
فالعواقب كانت صادمة فيما تنبأ به رسول الله (ص) من افتراق الأمة بعده بقوله: (كيف أنت يا عوف! إذا افترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها في الجنة وسائرهن في النار؟)[15]، وهذا النص النبوي يستدعي التأمل ويكشف بوضوح أن نسبة كبيرة جداً من المسلمين طرقهم المذهبية خاطئة، وعقائدهم غير مطابقة للقرآن والسنة، وبالتالي هم ضالون، إلا فرقة ضئيلة لديها من المبررات ما تحتج بها على صدقها ونجاتها.
نعم من العواقب المأساوية التي أفرزتها مقررات السقيفة أنها هيأت للمستبدين الظالمين فرصة لحكم المسلمين كحكم الدولتين الأموية والعباسية، وأخطائهما الجسيمة، وعصيانهما للأوامر الإلهية، كان إيذاناً بالعودة إلى عصر الجاهلية، لأن الإسلام في نظر هؤلاء مكاسب ومغانم وسيادة وتسلط، فلم يحسبوا حساب الآثار الوخيمة التي أنتجوها وأصبح فكراً راسخاً في عقول المسلمين، على سبيل المثال من تلك الآثار قتل أولاد الرسول (ص)، الإمام الحسن (ع) من قبل معاوية بن أبي سفيان علامة فارقة في جبين الأمة الإسلامية، وقتل الإمام الحسين (ع) من قبل يزيد بن معاوية، وأغلب المسلمين استعظموا هذه المصيبة وتنبهوا مؤخراً لفضل أهل البيت (ع)، لما أصابهم من الظلم والتعسف، وواقعة الحرة و0ما فعله (بسر بن ارطاة) قائد جيش يزيد بالمدينة المنورة من قتل ودمار وهتك وإباحة للأعراض والأموال.
ومن الإفرازات أيضاً التي دونها التأريخ الإسلامي أن معاوية هذا أمر بسب وشتم الإمام علي (ع) مدة ثمانين سنة من على منابر المسلمين، فصيّرها سنّة في جميع الولايات مع كل صلاة مفروضة، وكان يكتب إلى عماله، ومنهم عامله على الكوفة المغيرة بن شعبة يذكره ويقول: (ولست تاركاً إيصاءك بخصلة لا تترك شتم علي وذمه .... والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم)[16].
وقد نظم ابن سنان في ذلك شعراً[17]:
أعلى المنابر تعلنون بسبه وبسيفه قامت لكم أعوادها[18]
وانسحب هذا الأمر لما بعد فأصبحت عادة في العقود والقرون اللاحقة أن كل حاكم صار يأخذ نصيبه من السب والشتم، وإلى زمن عمر بن عبد العزيز، وكل الحكام الذين أتوا فيما بعد أمضوا سنّة إسقاط الحق الشرعي لخلافة الله رسوله (ص)، مما جعل المسلمين غير مستوعبين ما تركه لهم رسول الله (ص) من تراث لهذه المسألة، وصاروا لا يعبهون بما لحق بعلي والأئمة من أهل بيته (ع).
وهكذا جرت العادة في كل الحكومات السياسية التي تحسب على النظام الإسلامي من ذلك التأريخ المظلم وإلى اليوم أنها لم تتأثر بنظرية أن يكون الحكم للحاكم الشرعي، أو يكون لها أسس تشتقها من مبادئ الإسلام الأصيل، أو تعمل بمقتضى الأوامر التي تركها الله ورسوله للمسلمين.
واُستل عنوان ولي أمر المسلمين من الأئمة النجباء، وصار اللقب لغيرهم، فعاملوا أهل البيت (ع) بصرامة لضمان عدم مطالبتهم بحقهم الشرعي، فكان من ضمن السياسة في أول المحنة إلغاء الامتيازات التي أعطيت لآل بيت الرسول (ص)، وإلغاء مكانتهم من الأذهان التي عظم شأنها رسول الله (ص).
من هنا أتت الجرأة في احراق باب دار فاطمة (ع)، وغصبت نحلتها (فدك)، واُخرج الإمام علي (ع) عنوة ليبايع، وانتزعت منهم أي ميزة كانت تنسب إليهم في حياة النبي (ص)، وبالتالي ليس لأهل هذا البيت حق فيما يطالبون به.
فمنذ تلك اللحظات انزوى أئمة الطائفة المستضعفة، فلم يعودوا يواجهون بحقوقهم لفظاعة تصرفات الحكام معهم، الذين لم يتورعوا عن قتلهم، وعن إدخال أشياء في الدين، من غير تشريعات الإسلام، وارتكبوا جرائم وكل السلوكيات غير المرضية والمنحرفة.
وافتتن الناس في هذا الجو الضبابي وحاروا إلى أي طريق يسلكون، وإلى أي مذهب يهتدون.
من هنا متشرعة الإمامية أصبحت آراؤهم صارمة، واشتراطاتهم ثابتة وحذرة، ولا يسمحون أن يجتهد أحد كما حصل فيما سبق ووضع في المبادئ الإسلامية مفاهيم مزورة من غير الشريعة، وما نشاهده في الوقت الحاضر خير دليل.
نحن على يقين أن الذين خاضوا تجارب الطوائف الإسلامية في حالة عودتهم إلى المناهج الإسلامية الحقيقية منهج أهل البيت (ع) يرون الفارق العظيم في تذوق طعم الإسلام الحقيقي بلا زوائد أو رتوش، لأن دينهم دين المعرفة والتبصّر القائمة على الدليل، فأثبتت سياستهم على طول التأريخ أن لها أبعاداً اقترنت بأحداث دينية وسياسية كبيرة، أرادوا من خلالها أن يمتد الإسلام إلى آخر الزمان، وأن يشمل جميع الناس العدل، ولكنهم جوبهوا بمواقف حرمت الأمة من فيوضات علمهم وكراماتهم.
وحري بالذي يعرف مكانة أهل البيت (ع)، ينبغي أن يتهيّب إلحاق الأذى بهم، وبأتباعهم، فقد فرض الله تعالى على المسلمين مودتهم، كما فرض رسول الله (ص) السمع والطاعة لهم، وأن من المظالم عدم معرفة حقهم، كما في الحديث الشريف: (الزموا مودتنا أهل البيت، فإنه من لقي الله يوم القيامة وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا)[19].
نعم، إن من مسؤوليات الإمام علي (ع) المطالبة بحقه الشرعي التي هي الخلافة له دون غيره، وكان على الدوام يذكّر القوم بذلك في العديد من الخطب والاحتجاجات والمناسبات، ولم يجرؤ أحد أن يقول مقولته، أو ينفي عنه مطالبته بحقه لولا أنه كان محقاً صادقاً ولكن بلا جدوى.
نعم، كان رسول الله (ص) يحذّر من فتن مخالفة الإمام علي (ع) ويقول: (إن علياً أمير المؤمنين بولاية الله عز وجل، عقدها له من فوق عرشه وأشهد على ذلك ملائكته. إن علياً خليفة الله وحجة الله وإنه إمام المسلمين، طاعته مقرونة بطاعته ومعصيته مقرونة بمعصيته. فمن جهله فقد جهلني ومن عرفه عرفني ومن أنكر إمامته فقد أنكر نبوتي ومن جحد إمرته فقد جحد رسالتي ومن دفع فضله فقد نقضني ومن قاتله فقد قاتلني ومن سبه فقد سبني، لأنه خلق من طينتي، وهو زوج فاطمة ابنتي وأبو ولدي الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين حجج الله على خلقه، أعداؤنا أعداء الله وأولياؤنا أولياء الله)[20].
واستمرت محنة الإمام علي (ع) طوال حياته مظلوماً، متألماً، صابراً، محتسباً، وفي فمه العلقم، يحاجج القوم ويذكّرهم ببيعتهم له التي أخذها رسول الله (ص) يوم (غدير خم) ولكن بلا سامع، أو مجيب.
فمن ذلك حديث مناشدته حين اجتمع بأعضاء الشورى ودخلوا الدار بعد مقتل عمر وغلق عليهم، احتج عليهم أمير المؤمنين (ع) بقوله: (فهل فيكم من يقول الله تعالى فيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[21] سواي؟ قالوا: اللهم لا، وقال(ع): فهل فيكم من قال له رسول الله (ص): أنت مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي، قالوا: اللهم لا، وقال (ع): فهل سبقني منكم أحد إلى الله ورسوله، وهل فيكم أحد أتى الزكاة وهو راكع، ونزلت فيه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) غيري، قالوا: اللهم لا، وقال(ع): فهل فيكم أحد أنزل الله فيه آية التطهير حيث يقول الله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) غيري وزوجتي، وابنيّ، قالوا: اللهم لا، وقال(ع): فهل فيكم أحد أنزل الله عز وجل فيه وفي زوجته وولديه آية المباهلة، وجعل الله عز وجل نفسه نفس رسوله غيري، قالوا: اللهم لا، وقال(ع): فهل فيكم أحد قال له رسول الله(ص) أنت وشيعتك هم الفائزون، قالوا اللهم لا، ثم أقبل عليهم وقال: أما إذا أقررتم على أنفسكم، وبان لكم من سببي الذي ذكرت، فعليكم بتقوى الله وحده، أنهاكم عن سخط الله، فلا تعرضوا له ولا تضيعوا أمري، وردوا الحق إلى أهله، واتبعوا سنةّ نبيكم وسنتي من بعده، فإنكم إن خالفتموني خالفتم نبيكم (ص)، فقد سمع ذلك منه جميعكم، وسلموها إلى من هو لها أهل، وهي له أهل، أما والله ما أنا الراغب في دنياكم، ولا قلت ما قلت لكم افتخاراً ولا تزكية لنفسي، ولكن حدثت بنعمة ربي وأخذت عليكم بالحجة)[22].
وجميع هذه الشواهد والأدلة لم تجدي نفعاً، ولم يمتثلوا جانب الطاعة، بل وضعوا معرقلات، فلو قبلوا بقبول الله تعالى وقبول رسوله (ص) أن الولاية لعلي بن أبي طالب (ع) لساد الإسلام الأرض، ولعانق المسلمون آفاق الدنيا، لأن الإمام علياً (ع) ما كان شيء أعز لديه من بقاء الإسلام، وهداية الناس، إذ كان يتصرف من منطلق مسؤوليته الشرعية إذ لا فرق بين سياسته، وسياسة رسول الله إلا الوحي.
وهذه بعض البراهين كان يذكرهم بها على الدوام، ولم ينصفوه، واتبعوا أهواءهم، وسلبوا حقه، فحملوا الأمة على اختلاف الكلمة، وكان عليه السلام يقول: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري)[23]، وقال (ع): (إنما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه)[24]، وكان يردد: (فو الله ما زلتُ مدفوعاً عن حقي مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم)[25].
نعم، لقد سجّل التأريخ إدانته، وشقت هذه الأحداث المؤلمة طريقها إلى أعماق المؤمنين وهم يسمعون أنينه وزفراته وهو (ع) يقول: (ويل لمن ظلمني ودفع حقي وأذهب عظيم منزلتي)[26]، وقال (ع) وهو يشير إلى قبر النبي (ص): (يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني)[27].
وبرغم كل مظالمه استمر أمير المؤمنين (ع) يدافع عن الإسلام، وعن وحدة المسلمين ما أمكنه في المسار الذي أراده رسول الله (ص)، فكان يقدم النصح والمشورة للخلفاء وللناس، وإن كان خارج العملية السياسية.
كيف لا وهو المصداق الذي تركه لهم النبي (ص)، إذ لم يتوقف للحظة واحدة عن الجهاد في طريق الحق وإقامة النظام والحدود الإسلامية، فقال (ع): (فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم)[28].
وبعد مقتل عثمان لم يكن أمام المسلمين مناص من الذهاب إلى من يحملهم على جادة الصواب، إذ وصل الفساد السياسي إلى عنانه، وصارت أموال بيت المال بأيدي الطلقاء، فكان لا بد من الرجوع والبحث عمن يذكرهم بسيرة النبي (ص)، بعد إعراض دام أكثر من ثلاثين سنة، أوصلهم إلى ما أوصلهم إليه، وشعروا مؤخراً بحجم الظلم الذي لحق بالإمام أمير المؤمنين علي (ع) حين غصبوا منه الخلافة، وكان ضررهم عظيماً بفقدهم إياه طوال تلك السنين لعدم تواصلهم معه، وعلموا بعد فوات الأوان أنه الوحيد الذي يستطيع إصلاح ما فسد منهم، فأجبروه على تسنم الخلافة وهو متمنع، وقبلها على مضض.
نعم، هو الوحيد من الخلفاء الأربعة الذي وصلت إليه الخلافة بإرادة الشعب اختياراً حراً، فالأمة عندما خلّي بينها وبين اختيارها اختارت بإصرار الإمام علياً (ع)، وأعطوه ولاءهم، والدليل أنهم حملوه حملاً وأجلسوه عنوة على مسند الحكم، وكان كارهاً متململاً بعدما زهدوا به مدة من الزمن، فاشترط عليهم شروطاً حتى يقبل عرضهم، فوافقوا.
وقال (ع): (واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب)[29].
فكان عليه السلام يرى أن الأموال التي كانت توزع بغير حق هي ملك للمسلمين يجب إرجاعها إلى بيت المال، وهذه السياسة في تسوية العطاءات هي التي حركت الناس ضده، وقيل هي من مسببات حرب الجمل كما يرى الطباطبائي[30].
وقال (ع): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك)[31].
وما أن استتب به الأمر وجلس على مسند الخلافة حتى بدأ التحريض من قبل الناكثين والقاسطين والمارقين، تلك القوى الطامعة الانتهازية التي خسرت مواقعها السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، إذ لم تتحمل العدل الذي كان ينتهجه فيهم، فأخذوا يؤلبون الناس ضده، فحدثت في المسلمين فتن عظيمة أسفرت عن معارك وحروب راح ضحيتها آلاف الناس.