مكتبة الروضة الحيدرية : 3
تأليف السيد هاشم الميلاني
بدأ المؤلف كتابه القيم بتمهيد شامل بين من خلاله مكانة وقدسية مدينة النجف الاشرف متناولا في الوقت ذاته تاريخ المرقد العلوي المقدس وما مر به من مراحل التشيد و الاعمار تحت عنوان ( عمارات المشهد الشريف ) ثم بين ( الأدوار الثقافية للعتبة العلوية المقدسة ) حيث سلط الضوء على اهم المجالات التي تكفلت بها العتبة العلوية المقدسة والتي يمكن ايجازها ضمن النقاط التالية:
1 ـ تحمّل الحديث.
2 ـ تأليف واستنساخ وقراءة وعرض الكتب.
3 ـ المدرسة الغروية.
4 ـ الندوات العلمية والحفلات ومجالس المناظرات.
5 ـ المكتبة.
ليعرج بعدها على ( مكتبة الروضة الحيدرية المباركة ) وما يتعلق بها و نورد هنا بعض ما جاء فيه :
مكتبة الروضة الحيدرية
انّ البشر من أقدم عصوره، وعندما اكتشف الخط في بدايات حضارته، وعندما كان يكتب على الطين والحجر والصخور، اهتمّ بشأن الكتابة وضرورة حفظها شيئاً فشيئاً. وتدرّج الإنسان في ذلك وأبدع ما كان يحتاجه في هذا الشأن، فحصلت تطورات كبيرة وسريعة بشأن أدوات الكتابة من قلم وورق وغلاف، وأنواع الخطوط، وكيفية معالجة الآفات التي تسبّب ضياع هذا المجهود البشري وغير ذلك.
ومن أهمّ الأمور التي اهتم لها الإنسان في هذا المجال، وتطوّر فيها سريعاً، كيفية الحفاظ على هذا النتاج البشري بمختلف علومه وفنونه، وانتقاله للأجيال القادمة، ومن هنا تشكّلت خزائن الكتب العامة والخاصة لتجمع بين جنبيها الكتب وأوعية المعلومات المختلفة حفاظاً عليها، وتسهيلاً لعملية العثور عليها وحفظها للأجيال القادمة.
وبعد ظهور الإسلام، واهتمام الشريعة الإسلامية بطلب العلم والمعرفة، وضرورة التدوين والكتابة، كما ورد في كثير من الروايات الشريفة، نحو قول رسول الله9: «قيّدوا العلم بالكتاب» ([1]).
وما ورد عن الإمام الصادق(ع)حيث قال: «احتفظوا بكتبكم فإنّكم تحتاجون إليها» ([2])، وقال(ع): «اكتبوا فإنّكم لا تحفظون حتى تكتبوا» ([3]).
وقال(ع): «بالكتابة تقيّد أخبار الماضين للباقين، وأخبار الباقين للآتين، وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها، ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودرست العلوم وضاعت الآداب، وعظم ما يدخل على الناس من الخلل من اُمورهم، وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم، وما روي لهم ممّا لا يسعهم جهله» ([4]).
وبمثل هذه التوصيات عمل المسلمون وبدأوا بجمع الكتب وحفظها وتداولها والاستفادة منها، سيّما في فترة الحكم المأموني حيث اهتم بشأن ترجمة كتب الأقدمين من الحضارات المختلفة، فتكونت دور العلم وخزائن الكتب الضخمة في عصره، وهكذا استمر الأمر بالشدة والضعف وبحسب الظروف السياسية والإجتماعية التي كانت تسود العالم.
ولنعم ما ذكره ابن إدريس الحلّي (ت 598 هـ ) في مقدمة كتابه السرائر في وصف الكتاب، حيث قال: «فإنّ الكتاب نعمة الذخر والعقد، ونعم الجليس والعقدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس في ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والرحيل، ونعم الوزير والنزيل، والكتاب وعاء ملئ علماً، وظرف حشي طرفاً، وإناء شحن مزاحاً وجداً... والكتاب هو الجليس الذي يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملّك، والمستميح الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطنك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال لك بالكذب، والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال امتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بيانك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، والكتاب هو الذي يطيعك بالليل طاعته بالنهار، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر، لا يعتلّ بنوم، ولا يعتريه كلال السهر».
والخلاصة انّ الكتاب لا يُحفظ ولا يمكن تعميم الاستفادة منه مدّة مديدة إلّا بالمكتبات، ومن هنا تظهر أهمية المكتبات ودورها في النهوض الثقافي والمعرفي، وفي تطوير واقع النشاط العلمي والارتقاء بالمشهد الثقافي الذي من خلاله نستطيع أن نبني ثقافة متكاملة متحضرة، وهذا يتطلب النهوض الأمثل بالمكتبات العامة وتجهيزها بالمعدات اللازمة المتطورة، والسعي لإيصال الكتاب والوعاء المكتبي بصورة عامة إلى أبعد نقطة ممكنة في البلد.
«ولقد تبلورت وظائف المكتبات ومؤسسات المعلومات الحديثة في ثلاث وظائف أساسية هي:
1 ــ جمع مصادر المعلومات من مظانها المختلفة.
2ــ تنظيم واعداد هذه المصادر وتحليل ما بها من معلومات.
3 ــ تيسير الإفادة من تلك المصادر بأسرع وقت وأقل جهد.
ومن هذه الوظائف تكون المكتبات ومؤسسات المعلومات أداة للتقدم الإنساني في شتى مجالات العلم، حيث لا يمكن الآن إتخاذ أيّ قرار لا على المستوى الرسمي، ولا على المستوى الشخصي، ولا على مستوى البحث العلمي إلّا بالاستناد إلى المعلومات الدقيقة في الوقت المحدد».
من هذا المنطلق نشأت المكتبات في العصر الإسلامي، وأنشئت بيوت خاصة لجمع الكتب وحفظها في العواصم العلمية، ويحدّثنا التاريخ بأنّ بعض العلماء والوزراء كانت لهم مكتبات ضخمة ببغداد، فقد ورد بأنّ خزانة كتب السيّد المرتضى;كانت ثمانين ألف مجلد، وفي الري كانت كتب الصاحب ابن عبّاد تحتاج إلى سبعمائة بعير لحملها، إلى غيرها من المكتبات التي كانت ببغداد وغيرها من العواصم الإسلامية والتي أنشأها الملوك والحكّام والوزراء والعلماء([5]).
ولا يخفى بأن أهمية المكتبة والمكتبات تضاعفت في زماننا هذا، ولا سيّما بعد انتشار أزمة فقدان الهوية في الجوامع البشرية، وما نراه من تزايد المعلومات وكثرة تشعبها، وصعوبة حصرها في مكان واحد من دون الاستعانة بالمكتبات.
فالمكتبة إذاً مؤسسة علمية ثقافية تهدف إلى جمع مصادر المعلومات ووضها في متناول القرّاء والباحثين من أجل استخدامها في الأغراض الثقافية والعلمية.
تاريخ المكتبة:
لقد أصبحت ــ منذ قديم الزمن ــ المشاهد المشرّفة وقبور العلماء والعظماء، مورد اهتمام المسلمين، يقصدونها للزيارة تارة ولطلب العلم تارة اُخرى، إمّا استفادةً من أنوار صاحب القبر المعنوية، وإمّا استفادة من حلقات الدرس المقامة هناك، أو المكتبات التي اُسّست بجوار صاحب المرقد.
وقد نقل لنا الخطيب البغدادي في تاريخه كلام أبي عليّ الخلال حيث قال: «ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلّا سهّل الله تعالى لي ما اُحب» ([6]).
وقد كانت النجف منذ زمن بعيد مهداً للعلم والمعرفة إذ حوت بين جنبيها باب مدينة علم النبيّ9 أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، وكانت ولا تزال محوراً للحركات الثقافية والإجتماعية والسياسية، يشهد بذلك كثرة المكتبات والمدارس فيها والكتب الصادرة منها، بالاضافة إلى الإجازات الروائية الكثيرة التي تحمّلها أرباب العلم والفضيلة من مشايخهم في هذه المدينة الكريمة الدالة على الحركة العلمية والنشاط الثقافي.
ومن أقدم وأهمّ مكتبات النجف الأشرف، هي مكتبة الروضة الحيدرية، لما فيها من كتب ونفائس كثيرة كان أغلبها بخط مؤلّفيها أو عليها خطوطهم([7])، إذ كان المؤلّف يرسل نسخته الأصل إلى خزانة الإمام أميرالمؤمنين(ع) تبركاً وتيمّناً.
وقد زار هذه المكتبة العديد من العلماء والحكّام، وكانت معروفة مشهورة تُقصد من أقصى النقاط، وقد وصفها واستفاد منها الشيخ محمّد عليّ حزين اللاهيجي (ت 1180 هـ) عندما جاء إلى النجف، ومكث فيها ما يقارب ثلاث سنوات حيث قال: «قد اجتمع في مكتبته [7] من كتب الأوائل والأواخر في كلّ فن ما لا أتمكن من عدّه» ([8]).
وكذلك وصفها عبد اللطيف الشوشتري (ت 1220 هـ) عندما زارها بقوله:«انّ فيها من نفائس العلوم المختلفة التي لم توجد في خزائن السلاطين» ([9]).
ويمكن أن نوجز أهمّ الأسباب التي أدّت إلى اشتهار هذه المكتبة ضمن النقاط التالية:
1 ـ وجودها بجوار أميرالمؤمنين(ع) وانتسابها إليه.
2 ـ اهتمام السلاطين والاُمراء والوزراء، حيث كانوا يهدون إليها أنفس ما بحوزتهم من مخطوطات ونفائس تقرباً إلى الله تعالى وتكرماً لصاحب الروضة.
3 ـ اهتمام العلماء والمؤلّفين، وذلك من خلال:
ألف: شراء الكتب والمكتبات الخاصة، وعلى سبيل المثال فإنّ صدر الدين الكفي الآوي (ق 8) لمّا قام بتأسيس المكتبة من جديد بعد احتراقها بدأ بشراء الكتب والمكتبات الخاصة من بغداد حيث أصيبت بغلاء وقحط، فبيعت خزائن الكتب للغلة ([10]).
ب: وقف الكتب والمكتبات، حيث أوقف ابن العتائقي الحلّي وكذلك جلال الدين بن شرفشاه الحسيني كتبهم وتأليفاتهم على مكتبة الروضة الحيدرية، وكذلك غيرهما من العلماء والمؤلّفين، وسيوافيك شرحه.
4 ـ وجود الحوزة العلمية طيلة عدة قرون، ممّا أدّت إلى نشاط الحركة الثقافية سيما في مجال الكتب والمكتبات.
5 ـ وجود المدرسة العلوية داخل العتبة المقدّسة، وفي ذلك يقول الاُستاذ الشيخ عليّ الشرقي:
«انّ الجاليات والرواد الهابطين على المدرسة النجفية من بلاد ايران والهند وآذربيجان وما وراء النهر والقوقاز وعاملة والخليج وبعض نواحي اليمن، كانوا يفدون على النجف بثرواتهم المادية والأدبية، وأهمها اُمهات الكتب المخطوطة من كتب الفلسفة والرياضيات والأدب والفلك والتاريخ والمسالك والممالك، وقد كان رواد العلم وطلابه يسكنون على الأغلب المدرسة العلوية الكبرى (الصحن) ومنهم المقيم في غيرها من المدارس والدور الخاصة، وكانت في المدرسة العلوية خزانة كتب نفيسة تجمعت ممّا يحمله المهاجرون، وكانوا بعدما يتزودون بزاد العلم ويعتزمون العودة إلى أوطانهم يتركون ما حملوه من نفائس الكتب، وما ألّفوه من رسائل واطروحات في خزانة المدرسة العلوية محبسة على طلابها» ([11]).
وهذه المدرسة هي التي زارها ابن بطوطة في رحلته عام (727هـ) ووصفها بقوله: «ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة ولكلّ وارد عليها ضيافة ثلاثة أيّام من الخبز واللحم والتمر، ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبّة... » ([12]).
فهذه الاُمور وغيرها أدّت إلى توسّع المكتبة واشتهارها شيئاً فشيئاً.
أسماؤها:
عند تصفح الكتب التي اُلّفت في تاريخ النجف والعتبة العلوية المقدّسة، نرى انّ لهذه المكتبة أسماء متعددة بعضها تعييني وبعضها تعيّني، فقد سميت باسم: الخزانة الغروية، الخزانة العلوية، خزانة الصحن، خزانة أميرالمؤمنين(ع)، مكتبة الصحن العلوي، المخزن العلوي، المكتبة العلوية، المكتبة الحيدرية، وأخيراً مكتبة الروضة الحيدرية، ولكن أقدم هذه الأسماء وأكثرها شيوعاً وتداولاً هو الخزانة الغروية.
مكانها:
لم يمكن تحديد مكان لها بالضبط لما كان يطرأ على العتبة المقدّسة من بناء وتطوير مستمر، لكن المحتمل قديماً انّها كانت في المدرسة العلوية أو في جوارها، كما ذكره الشيخ عليّ الشرقي حيث قال: «وكانت في المدرسة العلوية خزانة كتب نفيسة تجمعت ممّا يحمله المهاجرون، وكانوا بعدما يتزودون بزاد العلم، ويعتزمون العودة إلى أوطانهم، يتركون ما حملوه من نفائس الكتب وما ألّفوه من رسائل واطروحات في خزانة المدرسة العلوية محبسة على طلابها» ([13]) .
وأخيراً عند باب القبلة حيث صرّح بذلك كثير ممّن كتب عن النجف الأشرف والعتبة العلوية المقدّسة، وقد قال العلاّمة أغا بزرك الطهراني في ترجمة المحدّث النوري: «ودفن بوصية منه بين العترة والكتاب يعني في الإيوان الثالث عن يمين الداخل إلى الصحن الشريف من باب القبلة»([14]). وصرّح آية الله العظمى السيّد المرعشي النجفي; في الاجازة الكبيرة ([15]) انّ المحدّث النوري دفن قرب مخزن مكتبة الإمام عليّ(ع).
أمّا الآن وبعد تأسيسها الثالث فهي تقع ـ بصورة مؤقتة ـ في جنب مسجد عمران من جهة باب الطوسي في طابقين، وهناك مساعي جادة لتخصيص مكان مناسب لها لتبنى المكتبة بمواصفات ومقاييس عالمية إن شاء الله تعالى.
[1] ـ تحف العقول: 36 ، تاريخ بغداد للخطيب 10: 48.
[2] ـ الكافي 1: 52.
[3] ـ نفس المصدر 1: 52.
[4] ـ البحار 3: 82.
[5] ـ راجع خزائن الكتب القديمة في العراق تأليف كوركيس عواد، وخزائن الكتب العربية في الخافقين تاليف الفيكنت فيليب دي طرّازي.
[6] ـ تاريخ بغداد 1: 120.
[7] ـ ماضي النجف وحاضرها 1: 148.
[8] ـ تاريخ وسفرنامه حزين: 221، وانظر ماضي النجف وحاضرها 1: 150.
[9] ـ تحفة العالم: 191.
[10] ـ الأحلام: 58، موسوعة العتبات المقدّسة (عليهم السلام): 226 .
[11] ـ الأحلام: 58 .
[12] ـ رحلة ابن بطوطة 1: 109، أعيان الشيعة 1: 330 .
[13] ـ الأحلام: 58 .
[14] ـ راجع مقدّمة مستدرك الوسائل 1: 47.
[15] ـ الاجازة الكبيرة للسيّد المرعشي النجفي: 411 .