من أروع صور الشجاعة العلوية الخالدة شجاعته في بقائه (عليه السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله) أثناء هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة المنورة.
قال الإربلي[1]: فأوحى الله إلى نبيّه (صلى الله عليه وآله) بما كان من كيدهم (كيد قريش)، وتلا عليه جبرئيل (عليه السلام): (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)[2]، وأمره بالهجرة، فدعا عليّا (عليه السلام) لوقته فأخبره بما أوحى الله إليه وما أمر به، وأنّه أمرني أن آمرك بالمبيت على فراشي أو على مضجعي؛ ليخفى بمبيتك عليه أمري، فما أنت قائل وصانع؟ فقال عليّ (عليه السلام): أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال: نعم، فتبسّم عليٌّ (عليه السلام) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لما أنبأه به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من سلامته، وكان أوّل من سجد شكرا، وأوّل من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الامّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ رفع رأسه وقال: امض لما أمرت به فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه كمسرتك، وأقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلّا بالله.
قال: إنّي أخبرك يا عليّ إنّ الله يختبر أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك الله يا ابن أم امتحنني فيك بمثل ما امتحن الله به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل، فصبراً صبراً فإنّ رحمة الله قريب من المحسنين، ثمّ ضمّه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى صدره وبكى وجدا به وبكى عليّ (عليه السلام) حزناً لفراق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
هكذا كان الموقف البطولي العظيم لأمير الموحدين والوصيين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو موقف حفظ رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) من أمر كاد يأتي عليه وعلى رسالة السماء.
ثم بعد ذلك وصل كتاب النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يأمره بالخروج والهجرة، فأَعْلَمَ مَنْ كان معه من ضعفاء المؤمنين، وأمرهم أن يتسللوا، ويتخفوا تحت جنح الليل إلى ذي طوى، وخرج (عليه السلام) بفاطمة بنت الرسول، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وتبعهم أيمن ابن أم أيمن مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأبو واقد، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فأمره (عليه السلام) بالرفق، فاعتذر بخوفه من الطلب.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أربع عليك، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لي: (أي حين سفره من الغار كما تقدم) يا عليّ أما إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه.
وأدركه الطلب قرب ضجنان، وهم سبع فوارس متلثمون، وثامنهم مولى للحارث بن أمية، يدعى جناحاً.
فأنزل عليّ (عليه السلام) النسوة، وأقبل على القوم منتضياً السيف، فأمروه بالرجوع، فقال: فإن لم أفعل؟!
قالوا: لترجعن راغماً، أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك.
ودنا الفوارس من المطايا ليثوروها، فحال عليّ (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوى جناح بسيفه، فراغ عليّ (عليه السلام) عن ضربته، وتختله عليّ (عليه السلام) فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضياً فيه، حتى مس كاثبة فرسه، وشد عليهم بسيفه، وهو يقول:
خلوا سبيل الجاهد المجاهد آليت لا أعبد غير الواحد
فتصدع القوم عنه، وقالوا: أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب.
قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله بيثرب، فمن سرّه أن أفري لحمه، وأهريق دمه، فليتبعني، أو فليدن مني، ثم أقبل على صاحبيه، فقال لهما: أطلقا مطاياكما.
ثم سار ظاهراً حتى نزل بضجنان، فتلوم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة الرسول (صلى الله عليه وآله) فعبدوا الله تلك الليلة قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلى بهم عليّ (عليه السلام) صلاة الفجر ثم سار بهم، فجعلوا يصنعون ذلك في كل منزل، حتى قدم المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم. (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً..) إلى قوله: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى..)[3].
ولما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) قدومه (عليه السلام)، قال: ادعوا لي عليّاً.
قيل: يا رسول الله، لا يقدر أن يمشي.
فأتاه (صلى الله عليه وآله) بنفسه، فلما رآه اعتنقه، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وكانتا تقطران دماً.
وقال (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): (يا عليّ، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبك - والذي نفسي بيده - إلا مؤمن قد امتحن قلبه للإيمان ولا يبغضك إلا منافق أو كافر)[4].
وهذه الرواية تضع علامة استفهام على من هاجر قبله إلى المدينة مع الرسول (صلى الله عليه وآله).